إن مدينة القدس فلسطينية الانتماء، عربية الهوية، تعبّر عن أصالة الجذور وأمجاد التاريخ الإسلامي العريق، ولا شك أن التاريخ العربي الإسلامي سيغدو دونها مبتورًا، وقد انتُزعت القدس من يد أصحابها الشرعيين سنة 1947م وخضعت لنظام دولي، ثم قُسِّمت إلى شطرين عام 1948م، فخضع أحدهما للإدارة الأردنية وخضع الآخر للكيان الصهيوني، وقد بسطت (إسرائيل) سيطرتها الكاملة على المدينة سنة 1967م، بل واتخذت قرارًا بضمِّها وشرعت في تنفيذ عدد من المشروعات؛ بُغية تهويد المدينة وتغيير ثوبها الفلسطيني العربي الإسلامي ومعالمها الزاهية منطلقةً من فكرة السيادة الإلهية على القدس، والتي نعدها -كما يراها عدد من الباحثين- إقحامًا لأمر ديني معنوي في مفاهيم قانونية ثابتة ومحددة وواضحة، وإن طرح هذه الفكرة يشكل عودةً لما يعرف بالحق الديني التوراتي لليهود على فلسطين، وهذا أمر ديني غيبي لا يعترف به القانون الدولي.
والناظر لحال القدس اليوم يجد أنها تئن تحت وطأة حرب ممنهجة ومدروسة، ذات أشكالٍ مادية وثقافية وإعلامية وسياسية وقانونية، على يد كيان محتل يسعى في كل لحظة لتجسيد سياساته التهويدية لمعالم المدينة المقدسة، وقد سبقه في ذلك احتلال بريطاني سُمّيَ آنذاك (انتدابًا) مهَّد الطريق أمام هذا المحتل الغاشم، وقد جاء الموقف الدولي غير متوافقٍ مع سياسات الاحتلال في القدس، فقرار التقسيم (181) -على الرغم من ملاحظاتنا الكثيرة عليه- إلا أنه أوصى بتحويل القدس وضواحيها لوحدةٍ إقليمية ذات طابع خاص، في حين اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة واستنادًا إلى اتفاقية جنيف الرابعة سنة 1949م أن القدس أرض محتلة، وأقرت ببطلان التشريعات "الإسرائيلية" أيًّا كان شكلها، ورفضت القبول بالاستيطان، بل وطالبت (إسرائيل) باحترام حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بما فيها القدس، واحترام حق الملكية، كما أقرت وأكدت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وقد صدرت عدة قرارات تدعم هذا التوجه الدولي مثل القرار رقم (194)، والعديد من القرارات.
وأمام هذا الموقف الدولي فقد جاء الموقف الفلسطيني الرسمي متمسكًا بقرار مجلس الأمن رقم (242) القاضي بضرورة انسحاب (إسرائيل) من جميع الأراضي المحتلة سنة 1967م بما فيها شرقي القدس إلا أن الموقف "الإسرائيلي" لم يقبل بالطرح الفلسطيني، فقد سعى جاهدًا لحسم الحالة الديموغرافية والجيوسياسية لشرقي القدس بهدف منع إقامة عاصمة فلسطينية فيها، وسعى لدمجها مع غربي القدس وبالتالي خضوعها تحت السيطرة الإسرائيلية، وهذا ما حدث فعلًا، واستمر التجاهل الإسرائيلي للقرارات الدولية حتى يومنا الحالي، ومما يؤخذ على المجتمع الدولي وعلى الرغم من وضوح الأحقية الفلسطينية في السيادة على مدينة القدس إلا أنه يمارس النفاق، فترى ازدواجية المعايير واضحة، فتراه يسارع لإدانة أي تصرف فلسطيني في إطار الدفاع عن القدس، في حين تراه يصمت حينما يُقدم الطرف "الإسرائيلي" على سياسات عنصرية تهويدية.
وبالمجمل يظهر لنا أن مستقبل مدينة القدس في ضوء المعطيات القانونية السابقة لن يكون أفضل حالًا من الماضي والحاضر، فلا تزال القوانين والاتفاقيات الدولية لا تعدو عن كونها حبرًا على ورق، لا سيما وأن المجتمع الدولي يفتقد للأداة التنفيذية القوية القادرة على كبح جماح وتغوُّل (إسرائيل)، وأمام هذه المعادلة الساطعة فعلينا نحن الفلسطينيين أن نشد من عزيمتنا وأن نطرق أبواب المجتمع الدولي لفضح انتهاكات الكيان الغاصب وسياساته العنصرية، حيث يتعيّن علينا التوجه للجمعية العامة للأمم المتحدة لمطالبتها بمخاطبة محكمة العدل الدولية لإصدار رأي استشاري تبين فيه الواقع القانوني لمدينة القدس، وعلينا أيضًا أن نتشبث بحقنا المشروع -وفق القانون الدولي- بالنضال بأشكاله كافة ضد المحتل "الإسرائيلي" وسياساته، وفي مقدمة ذلك استخدام القوة المسلحة التي تفرض الوقائع على الأرض وتردع المحتل "الإسرائيلي".