بالرغم من كل ما رُوِّج للجيل الجديد (جيل أوسلو)، "جيل الألفية"، بأنه غير آبهٍ لما يدور حوله، فإن أرض الواقع أثبتت عكس ذلك، فقد استطاع إعلاء صوته في وجه سياسات الاحتلال الإسرائيلي ماضيا في طريقه إلى المسجد الأقصى، ممهدًا الطريق لحالة نهوض شعبي تحمي وجودهم، وتعزز صمودهم.
يظهر بأس هذا الجيل جليًا في تصميمه الواضح الذي يظهره في التصدي للعرض العسكري الإسرائيلي بالأعلام، وإعادة فتح مصلى باب الرحمة، وساحة باب العامود، وإفشال الاقتحامات التلمودية لباحات الأقصى ضمن حراكات شبابية عفوية غير منظمة، في رسالة واضحة أن "هذا مكاني وزماني في القدس".
يقول أستاذ التاريخ في الجامعة الإسلامية د. نهاد الشيخ خليل، إن ما يميز هذا الجيل الجديد أنه يتابع ويراقب المعارك التي يفرضها المستوطنون والاحتلال على أهالي الضفة وقطاع غزة، فوجد أن خيار السلطة السياسي في الضفة وصل إلى طريق مسدود، ولا توجد أي رغبة لدى القيادة الحاكمة في إعادة النظر بالنموذج المقاوم".
الفاعلية الميدانية
ويضيف الشيخ خليل لـ"فلسطين": "القدس والأحداث المتواترة فيها منذ سنوات محرك فاعل جدًا للجيل الجديد الذي يبحث عن مكانه ودوره ومستقبله فلا يجده، فارتأى أن يخوض معركة جديدة بأدواته وأساليبه وقدرته على الإفلات من قبضة التنسيق الأمني والاحتلال"، مشيرًا إلى أن فاعلية هذا الجيل بدأت تظهر في عام 2014 من خلال عمليات عسكرية نوعية ضد المستوطنين والجيش.
ومن ناحية أخرى فإن النسيج الاجتماعي الذي حاولت السلطة بناءه معتمدة على الكتلة المسيطرة من موظفي القطاعين العام والأمني بعد انتهاء انتفاضة الأقصى (2005) والانتخابات الرئاسية، وأحداث الانقسام الداخلي في عام 2007، "بدأ يتآكل ويتراخى، والدليل على ذلك أن الذين نفذوا عمليات في الفترة الأخيرة منهم ضباط في الأجهزة الأمنية".
وهناك عوامل أخرى ساهمت في تشكيل تجربة المقاومة لهذا الجيل، وفق الشيخ خليل، منها المعارك التي يفرضها المستوطنون على الفلسطينيين، وعمليات إحياء الفعل الثوري التي تقودها فصائل المقاومة بدأت تؤتي أكلها، إضافة إلى حراك المقاومة الشعبية التي تقوده الحركة الإسلامية في الداخل المحتل من خلال تسيير القوافل إلى القدس لتعزيز صمود أهلها اقتصاديًا والرباط في الأقصى.
ولكن كيف يمكن استفزاز الطاقة الكامنة في هذا الجيل من أجل مقاومة شعبية تعيد الاعتبار إلى مفاهيم التحرر الوطني؟ يرى الشيخ خليل أن استفزاز الطاقة الكامنة ليس مجرد مقاومة شعبية، بل هنالك مواطن يتم فيها استخدام المقاومة الشعبية وعلى وجه التحديد الرباط في المسجد الأقصى، وهناك حالة في المناطق المحيطة تستدعي تنفيذ عمليات عسكرية، "وهذا نموذج جديد للمقاومة وبروح جديدة، وهي الطاقة التي تعبر عن نفسها وبطريقتها التي تتكشف يومًا بعد يوم".
صاحب إرادة وطنية
من جهتها، تبين أستاذة علم الاجتماع، المحاضرة في جامعة بيرزيت، د. رلي أبو دحو أن الحديث عن الجيل الجديد لا ينتهي بحكم ما نراه في الشارع فهو غير عادي بكل المقاييس، بمعنى أن هذا الجيل ولد بعد أوسلو في فترة شهدت تراجع النضال الوطني واختفاء بعض القيم، وضعف أداء بعض التنظيمات وتسارع وتيرة أسرلة التعليم في القدس، وسياسات الخنق الاقتصادي والاجتماعي.
وتلفت أبو دحو لـ"فلسطين" إلى أن هذا الجيل ولد مسحوقًا وفي ظروف قاسية بعيدة عن الممارسة النضالية، وكان يستمع لحالات نضال ما قبل أوسلو، ويتعامل معه الآخرون أنه جيل ضائع، وغير واعٍ، وغير مهتم بالنضال الوطني، "ولكن في الممارسة الفعلية التي نشاهدها على الأرض هو جيل يمتلك الإرادة الوطنية والكفاحية، وقد تجلى ذلك بالاشتباك مع الاحتلال، والوعي بالقضية الوطنية، وبالمفاصل الأساسية، وبأهمية النضال ضد الاحتلال بإرادة ذاتية غير متوقعة".
وتنبه إلى أن هذا الجيل وصل إلى هذه المرحلة بعد استنفاد مرحلة ما بعد أوسلو، فلم يعد هناك ما يمكن تقديمه مع ارتفاع وتيرة السياسات القمعية ضد الفلسطيني في تفاصيل حياته اليومية كافة، "وشكل ذلك تحديات تمسه على المستوى الإنساني والكرامة وتعطل الإرادة والقدرة، ومن هنا كانت الشرارة من القدس وباحاتها".
وتقول أبو دحو: "القضية متكاملة على كل المستويات، والمسجد الأقصى يشكل مصدر هوية معنوية وقبلة دينية للفلسطيني، ولكن حجم الصراع القومي بينه وبين الاحتلال حاد جدًا لدرجة أن كل بقعة في القدس هي ميدان للمواجهة".
وتتابع حديثها: "هذا الجيل الفتيّ استطاع تجاوز كل الظروف السيئة والمجافية التي خلقها مشروع أوسلو الأمني والاقتصادي بالنزول إلى الشارع، ليوجه رسالتين في تلك المعركة الطويلة، الأولى: عقم الخيار السياسي الذي يسمى أوسلو، والثانية: حتمية استمرار النضال حتى استعادة الحقوق والحفاظ على الهوية الوطنية والكرامة الإنسانية، وهو أمر منوط بالأجيال المتعاقبة".
جيل يحتاج إلى فرصة
وتؤكد أبو دحو ضرورة أن يمنح هذا الجيل الفرصة للتعبير عن نفسه، فلديه طاقات كامنة بحاجة إلى استفزاز ورعاية، وعلى مستوى وطني فإن هذه مؤشرات على استعادة المبادرة الوطنية على مستوى القوى الفلسطينية لاحتضان التجربة وإسنادها ودعمها، وتوفير حاضنة اجتماعية لهم، وتعبئة الخطاب الوطني والتعليم لكونه يصب في مصلحة بناء هذا الجيل وإعطائه كل الأدوات الممكنة في معركته ضد الاحتلال من أجل تحقيق خطواته النضالية.
وتشدد الأكاديمية الفلسطينية على أن الفعل النضالي لجيل الألفية منح شعبه بأن الأمل قادم وحمل فرص كبيرة لتتصاعد المقاومة وتطورها في كل الأراضي المحتلة، كما جرى في مايو/ أيار 2021 من مقاومة جماهير فاعلة بجميع أعمارها وفئاتها وكل أماكنها؛ حيفا وعكا والطيرة ويافا وغيرها.
وتوضح أبو دحو أن تلك العوامل تؤكد أن النصر ليس متعلقًا بالقدرات العسكرية، وإنما يقاس بقوة إرادة النضال، وخروج الشباب إلى شوارع القدس، وغيرها، ما أعاد كل المفردات التي سعت أوسلو إلى طمسها، كمفهوم المقاومة الشعبية والاشتباك واستبدالها بالمقاومة السلمية".