منذ معركة سيف القدس التي حوّلت شعار "الأقصى في خطر" والذي رفعه "شيخ الأقصى" الشيخ رائد صلاح عام 1996م، أي قبل أكثر من ربع قرن؛ من شعور وإنذار إلى سلوك وطني جماعي لمواجهة ذلك الخطر. وقد تشكلت معادلة جديدة للمواجهة الشاملة مع الاحتلال الإسرائيلي تحتوي على صواعق تفجير وطنية عنوانها الأقصى والأسرى واللاجئين. ويجب أن لا نشطب من ذاكرتنا أن حلم قادة الاحتلال بتحويل المسجد الأقصى إلى مركز يهودي عالمي تحت مسمى "الهيكل"، بدأ يتشكل يوم رفع الجنرال الصهيوني "مردخاي جور" العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة في أول اقتحام للمسجد الأقصى من برفقة جنوده عام 1967م.
إن محاولات المنظمات اليهودية لإيجاد واقع ميداني يفرض تقسيمًا زمانيًّا ومكانيًّا للمسجد الأقصى مستمرة، وهي تحظى بدعم كامل من مؤسسات الاحتلال الأمنية والسياسية والقضائية. ومن الموضوعية أن نعترف أن تلك المحاولات قد استطاعت -حتى الآن- أن تمنح الجماعات اليهودية جدولًا زمنيًّا يوميًّا لاقتحام المسجد الأقصى صباحًا وبعد الظهيرة، لمدة ساعتين لكل منهما! وهو ما تنقله كل يوم وسائل الإعلام العربية والإسلامية والدولية!
ورغم أن أول قرار إسرائيلي حكومي كان في عام 1989 حيث سمحت شرطة الاحتلال لأول مرة بصورة رسمية بإقامة الصلوات التلمودية على أبواب المسجد الأقصى، وتلى ذلك اقتحامات متعددة كان أشهرها ما قام به "أرئيل شارون" في سبتمبر عام 2000م وقد كان زعيمًا للمعارضة في الكنيست؛ إلا أنه يمكن اعتبار عام 2003م هو الانطلاق الرسمي لتلك الاقتحامات الجماعية المنتظمة، حيث سمحت الشرطة الإسرائيلية للمستوطنين باقتحام الأقصى من خلال باب المغاربة، دون أي اعتبار لسيادة دائرة الأوقاف الإسلامية التي تتبع للوصاية الهاشمية الأردنية على المسجد الأقصى. وذلك يمثل انتقالًا من كونها "زيارات سياحية" إلى أن أصبحت حقًا دينيًّا تحميه سلطات الاحتلال. وهذا ما يؤكده ويفسره تسلسل السماح لهؤلاء المتطرفين بأداء صلوات يهودية وطقوس تلمودية على أبواب المسجد الأقصى وعند أسواره، وصولًا إلى السماح لهم بالنفخ بالبوق عند قبور "الصحابة" بقرار من المحكمة الإسرائيلية. وغض الطرف عن قيامهم بارتداء "لباس التوبة" التوراتي، وهو لباس أبيض يرمز لطبقة الكهنة اليهود. وتجاهل شرطة الاحتلال لتكرار قيام هؤلاء المتطرفين بأداء "السجود الملحمي" حيث ينبطح المستوطن المتدين على وجهه ويعتبر هذا أعظم درجات الخشوع في الطقوس التوراتية.
إن تلك الممارسات تضعنا أمام تهديد حقيقي بأن الاحتلال يقوم بشكل فعلي وممنهج باستخدام المسجد الأقصى الذي هو حق خالص للمسلمين؛ كمكان لأداء الطقوس اليهودية. وهذا يقتضي توفير الحماية الكاملة لهم في أوقات مخصصة وأماكن معينة داخل ساحات المسجد الأقصى. وهذا مع الوقت لا يمكن اعتباره سلوكًا من المتطرفين اليهود فقط، بل هو ممارسة من اليهود داخل "إسرائيل" ومن خارجها.
إننا اليوم أمام خطر لا يكفي فيه شعار "القدس في خطر" ولا يصلح معه الهبات والانتفاضات، فما يتم على الأرض هو قضم مساحات كبيرة من المسجد الأقصى ومرافقه الداخلية والخارجية. إن المسجد الأقصى الذي هو أول قبلة شرعية لنحو 2 مليار مسلم وثالث أقدس المساجد لهم يتم تهويده بشكل حقيقي، وإن لم نتحرك فرادى وجماعات للدفاع عنه بكل ما نستطيع فإننا أمام كابوس تكرار تجربة التقسيم المكاني والزماني للمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، وعندها لا قيمة لصندوق القدس الذي أقرته الجامعة العربية في مؤتمرها عام 2002م ببيروت، ولا معنى للمؤتمرات الصحفية أو اللقاءات التثقيفية التي تبكي على أطلال القداسة وتذرف دموع الألم على ضعف الأمة.
من أراد أن يقيس شعوره بأن الأقصى في خطر حقًّا فلينظر إلى المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى وحوله، ويحسب قوة سلاحهم ويجمع قائمة وسائلهم! فهؤلاء يدفعهم إيمانهم بالواجب وشعورهم بكرامة وجودهم زمانًا ومكانًا. وإذا كنا نشعر بأن الأقصى في خطر فإن علينا أن نفرغ كل جهد من أجل الدفاع عنه حتى وإن تخاذل القريب والبعيد عن حمايته، فإن الدفاع عنه هو واجب الفرض لا النافلة، واستحقاق القوة لا رفاهية الاستضعاف. وإن كل جهد يقدم للدفاع عن الأقصى هو واجب على الأحياء من المسلمين، وحق على كل مسؤول عربي وإسلامي مهما كانت أعذاره أو مبرراته، فليس أعز من المقدسات، وإن أوجبها اليوم هو المسجد الأقصى.