لا أستطيع أبدًا توجيه اللوم إلى حركة المقاومة الإسلامية “حماس” لمجرد أنها أقامت علاقة مع هذه الدولة أو تلك العاصمة بأي مكان في العالم، فما بالنا إذا تعلق الأمر بسوريا ودمشق، أو أي دولة من دول المواجهة مع المحتل الصهيوني، لا أستطيع أبدًا وأنا في القاهرة أو في تركيا أو قطر أو أي بقعة في الكوكب، التنظير على حماس أو المقاومة الفلسطينية ككل، وإملاء ما يجب أن تفعل وما لا يجب لمجرد أنني مهتم بالقضية الفلسطينية، أو متحمس لها، أو حتى مؤيد لحماس ومن أنصارها.
لا أعتقد أبدًا أن هكذا تورد الإبل، ولا أعتقد أن هكذا يجب أن يصل مدى التدخل في شؤون قضية لا نقف أبدًا على أبعادها أو حتى جزء منها، بل لم نسدد أي فاتورة دم في سبيلها كما فعلت وتفعل حماس، اللهم إلا مشاهدة الأحداث على التلفاز، أو التعبير بالكتابة أو اللسان أو القلب كأضعف الإيمان، في الوقت الذي سوف تواجَه فيه حماس بانتقادات ربما أكثر بشاعة إن هي فوتت الفرصة ولم تُقِم علاقات مع هذه الدولة أو تلك، أي أنها مثار انتقاد في الأحوال كلها، فعلت أو لم تفعل بكوننا جميعًا أوصياء على القضية الفلسطينية، ومن ثم على فصائلها.
خلال سنوات الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي والأمريكي، كان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الزعيم ياسر عرفات، الوحيد في العالم الذي يتنقل بين الكرملين الأحمر في موسكو والبيت الأبيض في واشنطن في يوم واحد، دون تنظير عربي أو غربي على هذا التنقل، في وقت كان من الصعب، بل والصعب جدًا، على أي زعيم في العالم أن يفعل ذلك، ذلك أن الاستقطاب آنذاك كان في أوج صوره وأشكاله، إما مع وإما ضد، لكن لأن القضية الفلسطينية كانت وستظل قضية عادلة، فكان لا بد من عدم استعداء أي طرف، حتى لو كانت الولايات المتحدة نفسها، بصفتها أكبر داعم للمحتل في المحافل الدولية، ليس فقط، بل بالسلاح على أرض المواجهة.
ما يجري من نحر وتقطيع لحماس خلط واضح للأوراق
ما نشاهده وما نقرأه من نحر وتقطيع لحماس، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، أو المواقع الإخبارية، والصحف والفضائيات، لمجرد أنها أعادت علاقاتها مع دمشق، أو حصلت على سلاح من إيران، أو نسقت بشكل أو بآخر مع حزب الله اللبناني، هو أمر غريب بحق، خاصةً في ضوء ذلك الموقف العربي المتخاذل من المقاومة والنضال الفلسطيني، والتقارب المحموم مع العدو المحتل، وربما في الموقف من القضية الفلسطينية كلها، والذي لم يعد يرقى حتى إلى مستوى التصريحات، وليس الدعم المادي أو العيني.
أضف إلى ذلك أن الحركة قاطعت النظام في سوريا بالفعل قرابة العشر سنوات، إلى أن تفتت المعارضة السورية وانقلبت على نفسها، وأصبح الأمر بلا معنى، وبدلًا من أن نعترف بالواقع المرير ونجلد ذاتنا، راح بعض يلقي بالاتهامات لحماس وكأنها كانت طرفًا فيما يجري على الأرض.
ما يجري هو خلط واضح للأوراق ما كان يجب أبدًا أن يكون، ذلك أن الصراع في سوريا لا يجوز بأي حال أن يكون الأشقاء في فلسطين عمومًا طرفًا فيه، بل يجب ألا يكونوا طرفًا في أي صراع من أي نوع بالمنطقة، هم في حاجة إلى علاقات مع كل الجماعات وكل العواصم بلا استثناء، فكيف بدول الجوار، حتى لو كانت معظم هذه الدول منكوبة بشكل أو بآخر، ومَن قال إن العواصم الأخرى أفضل حالًا من دمشق في علاقاتها بمواطنيها؟!
كنت آمل أن يشير أحد إلى آخر دعم عربي للنضال الفلسطيني من أجل تحرير الأرض، آخر قطعة سلاح، آخر طلقة رصاص، آخر مساعدة عسكرية من أي نوع، لقد مضى على هذا النوع من الدعم ما يقرب من نصف قرن، قبل أن ينبطح الجميع في أشكال وصور متعددة، من تبادل سفراء، وتبادل تجاري، ولقاءات سرية، وحتى الزيارات الرسمية التي لم تعد خافية على أحد، وعلى أعلى المستويات للأسف، بل تواترت أنباء في كثير من الأحيان عن تواطؤ وخيانة عربية لتلك القضية، التي كانت ذات يوم قضية العرب الأولى.
أعتقد أن الإنصاف يحتم علينا الاعتراف بأن حركة حماس هي آخر ما تبقى من شرف عربي في مواجهة ذلك النبت الشيطاني الصهيوني، الذي أراه يترنح وفي طريقه إلى الزوال بحكم عوامل كثيرة، وما هذا التكالب من بعضهم على دعمه، إلا محاولات بائسة ويائسة لإطالة عمره، أو الإبقاء عليه لأسباب نعيها جميعًا، وهو الأمر الذي كان يحتم علينا وعلى حركات ومنظمات المقاومة كلها التوحد تحت راية واحدة وهدف واحد، هو تحرير الأرض من هذا المحتل الغاصب، دون انتظار للمستحيل العربي.
حسابات المنطق والسياسة تحتم على الحركة ألا تصطدم بالأنظمة
الشعوب العربية أيها السادة -في معظمها- ما زالت هي السند الوحيد للقضية الفلسطينية، في وجود أنظمة -في معظمها أيضًا- تخلت عنها شكلًا وموضوعًا، وحركة حماس كغيرها تعي ذلك جيدًا، بالتالي هي تنحاز إلى الشعوب ونضال الشعوب قبل أي شيء آخر، وبالتأكيد ليست في حاجة إلى من يُذكرها، إلا أن حسابات السياسة والمنطق تحتم على الحركة ألا تصطدم بالأنظمة، بل إن العلاقات الرسمية للحركة مع العواصم وبشكل خاص عواصم دول المواجهة يجب ألا تتأثر بشكل أو بآخر، خاصة عندما يتعلق الأمر بصراعات داخلية، فلا يجب أن يكون الأشقاء الفلسطينيين طرفًا فيها سلبًا أو إيجابًا.
أذكر أنني التقيت السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي الأسبق لحركة حماس أكثر من مرة، وأجريت معه حوارات صحفية في العاصمة الأردنية عامي 1996 و1997 قبل محاولة اغتياله وبعدها، وأعي تمامًا ماذا تمثل الشعوب العربية للحركة من أهمية، في الوقت الذي تحرص فيه الحركة أيضًا على أن تكون على مسافة واحدة من كل العواصم العربية، التي تتفاقم خلافاتها يومًا بعد يوم، وهو توازن لا يقل أهمية وصعوبة عما كان عليه الرئيس عرفات مع أقطاب الحرب الباردة، بل ومع دول المنطقة أيضًا في كثير من الأحيان.
أعتقد أن أي داعم للحق الفلسطيني، يجب أن ينصح أصحاب القضية بتجنب تلك الطائفية البغيضة التي يعيشها عالمنا العربي حاليًا، وعدم الدخول طرفًا فيها، كما النأي بأنفسهم عن الصراعات الداخلية لهذه الدولة أو تلك، والتفرغ لقضيتهم التي أصبحت تجد دعمًا من دول حُرة عديدة في أقصى الكرة الأرضية، من أمريكا اللاتينية وحتى شرق آسيا وغربها، إلى شمال أفريقيا وجنوبها، في غياب وتخاذل من العرب، أصحاب القضية الأصليين، وهو ما سوف يقف التاريخ والتأريخ أمامه طويلًا، مُسطرًاً أسرار تلك الحقبة المشينة من تاريخ الوطن، وسوف يظل المجد لحماس والمقاومة الفلسطينية دون غيرهم.