عملية طوفان الأقصى سوف تظل علامة فارقة في الحسابات العسكرية، والعلاقات الدولية، والصراعات الإقليمية لسنوات طويلة، مع الوضع في الاعتبار أنها لن تراوح مكانها الآن، بل لا يستطيع أحد التكهن بما تبقى من مجرياتها، وتداعيات ما كان، وما سيكون في المستقبل القريب والبعيد معاً، ذلك أن الأفق يحمل الكثير حول طول أمد الأحداث من جهة، وربما جسامتها من جهة أخرى، مع اتساع رقعة الصراع ليس فقط، بل بما أزيح النقاب عنه من أطماع ومخططات كانت طي الكتمان، جاء الطوفان ليكشف أسرارها وأستارها بوضوح منقطع النظير. ويمكن الإشارة إلى عدد من الملاحظات في هذا الشأن تتمثل في الآتي:
أولاً: أن القضية الفلسطينية، لم تعد قضية العرب الأولى، كما لم تعد قضية عربية خالصة، خصوصاً بعد أن تصدرت جنوب افريقيا المشهد أمام محكمة العدل الدولية، وتصدرت كل من المكسيك وتشيلي المشهد أمام المحكمة الجنائية الدولية، وتصدرت عواصم عديدة في العالم مشاهد المظاهرات والاحتجاجات، في غياب العواصم العربية، الرسمية والشعبية في آن واحد.
ثانياً: ثبت أن الأنظمة العربية الحالية، هي الأضعف تاريخياً على الإطلاق، في مواجهة الكيان الصهيوني وداعميه الدوليين، بين كل الأنظمة السابقة منذ النكبة، عام 1948، ذلك أنه بات واضحاً، على سبيل المثال، أن الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب أخيراً في ما يسمى الربيع العربي، كانت الأكثر عروبة وقومية ووطنية من كل الوجوه، ومن كل هذه الوجوه، وقد عاد ذلك بالتبعية على جامعة الدول العربية، التي توارت تماماً، ولم يعد لوجودها أي مبرر.
ثالثاً: كشفت الأحداث أن الأنظمة العربية استطاعت، ومن خلال محاور عديدة، أهمها مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومنابر دور العبادة، العبث بالعقل العربي وتسطيحه، إلى الحد الذي بلغ فيه المواطن درجة من البلادة واللامبالاة، لا يستطيع معها الانتفاض لشقيقه في فلسطين، أو لأولى القبلتين، أو للقدس الشريف، بل ربما لا يرغب في الثورة من أجل نفسه، حال الافتئات على حقوقه الشخصية، وتجويعه وإذلاله على مدار الساعة.
رابعاً: أزاح الغرب الاستعماري التاريخي، بقيادة الولايات المتحدة هذه المرة، النقاب عن وجهه القبيح، في ما يتعلق بالمنطقة العربية بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص، من خلال تلك التحالفات التي جرت سريعاً، في مواجهة فصائل تحرر وطني، وانضمام عدد كبير من دول الاستعمار التاريخي إلى هذه التحالفات، حتى عندما تعلق الأمر بقطع المساعدات عن وكالة (الأونروا)، التي تنحصر مهامها في سد رمق الجوعى والمحتاجين.
خامساً: كشفت المواجهات المسلحة التي يخوضها الغرب على جبهات عدة، في البحر الأحمر، وفي كل من العراق وسوريا واليمن، وإمكانية اتساعها إلى مناطق أخرى، أن الكيان الصهيوني يمثل القاعدة العسكرية المتقدمة للدول الغربية، بالتالي ليس هناك أدنى تفكير في التخلي عن هذه القاعدة، أو السماح بهزيمتها أمام أي من دول المنطقة، حتى لو استدعى ذلك مخالفة كل المواثيق والقوانين الدولية، واستخدام (الفيتو) سيئ السمعة إلى أبعد حد.
سادساً: عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة مرة أخرى، وبهذه القوة، لم يكن يتحقق إلا بسداد أثمان كبيرة من الدماء والأرواح والممتلكات، ذلك أننا أمام أهم قضية تحرير أرض في التاريخ الحديث، لما تتميز به القضية من سمات دينية وطائفية وأيديولوجية، ناهيك عن عنصريتها ودوافعها السياسية والاقتصادية، مع الوضع في الاعتبار أن الفاتورة التي يسددها الجانب الآخر (الصهيوني) باهظة التكلفة أيضاً، بما يشير إلى أن الأمر بالتأكيد يستحق.
سابعاً: انتهت إلى الأبد أسطورة الجندي الإسرائيلي، أو الجيش الذي لا يقهر، أو حتى الدولة الديمقراطية، وغير ذلك من أساطير، نسجها الإعلام الصهيوني حول العالم، وسلّم بها المواطن العربي، وربما غير العربي، بفضل المقاومة الفلسطينية، مع الوضع في الاعتبار أن الجيوش العسكرية والإعلامية لدول المنطقة لم تستطع تحقيق أي من ذلك على مدى أكثر من سبعة عقود مضت.
ثامناً: في الوقت الذي أثبت فيه المقاتل الفلسطيني، من خلال الأحداث الجارية، تفوقه على نظيره الإسرائيلي وغير الإسرائيلي، من المرتزقة وغيرهم، وفي الوقت الذي أثبت فيه الشعب الفلسطيني بشكل عام، قدرةً فائقة على التحمل والصبر، إيماناً بقضيته، عاشت الشعوب العربية في معظمها، حالة إلهاء واضحة، ما بين أنشطة فنية وأخرى رياضية، وهي رسالة واضحة للعالم تؤكد أننا أمام قضية فلسطينية خالصة، لن يحسمها في نهاية الأمر إلا أصحابها.
تاسعاً: من خلال سوابق الغرب في التعامل مع القضية الفلسطينية، والقضايا العربية بشكل عام، يمكننا التأكيد على أن كل ما يتم طرحه الآن على موائد المفاوضات، من وعود سياسية، تتعلق بإقامة دولة فلسطينية، وحل الدولتين، وما شابه ذلك، إنما هو من باب الخداع وكسب الوقت، إلى ان يستعيد جيش الاحتلال تنظيم صفوفه من جهة، ولم شمل الجبهة الداخلية للكيان الصهيوني من جهة أخرى، وهي أمور بالتأكيد في حسابات المفاوض الفلسطيني.
عاشراً: يجب الوضع في الاعتبار طوال الوقت، أن عملية طوفان الأقصى، أفشلت مخططات استعمارية وصهيونية في آن واحد، تراوحت ما بين مشروعات استحواذ غربية في المنطقة، من طرق بديلة وتحالفات جديدة، وأخرى للاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف، بهدف إجبار الشعب الفلسطيني على الرضوخ للأمر الواقع، وإنهاء القضية الفلسطينية للأبد، في وقت أصبحت السلطة الرسمية في الضفة الغربية، مجرد حارس لدولة الاحتلال.
على أية حال، هناك أيضاً الكثير من القضايا التي لا يمكن تجاهلها حال البحث في تفاعلات الوضع الراهن على الساحة، وفي مقدمتها متغيرات الوضع الطائفي بالمنطقة، في ضوء المعطيات السياسية الجارية، وأسباب تصدر إيران للمشهد السياسي الآن، من خلال اللعب بأوراق عربية بالدرجة الأولى، في الوقت الذي تراجعت فيه أدوار عواصم كبرى، في مقدمتها مصر، لأسباب سياسية داخلية أحياناً، وأخرى اقتصادية في أحيان أخرى، ناهيك عن انعدام الدعم العربي للقضية، بما يضعف من الموقف المصري وغير المصري في مختلف الساحات.
وتكفي الإشارة في هذا الصدد، إلى الطرق البرية البديلة التي استحدثتها بعض دول الخليج العربية، بهدف تسهيل المبادلات التجارية للكيان الصهيوني، وإيصال المواد الغذائية وغيرها إلى هناك، بعيداً عن عيون وصواريخ الحوثيين بالبحر الأحمر، في الوقت الذي يحرم فيه الكيان الشعب الفلسطيني من أدنى حاجاته للماء والغذاء والدواء، بما يجعل من الحديث عن تضامن عربي، أو وحدة عربية، أو أي شيء من هذا القبيل، ضربا من الأوهام والخيالات، على الأقل في ظل الأنظمة السياسية الحالية. ولأن الأمر كذلك، ونظراً للفجوة الكبيرة بين تطلعات شعوب المنطقة ونهج الأنظمة فيها، يمكننا القول إن المستقبل القريب سوف يحمل الكثير من المتغيرات على الساحة الإقليمية بشكل خاص، وهو ما يجعل من طوفان الأقصى علامة فارقة في تاريخ المنطقة من كل الوجوه، تتشكل معالمها الآن، بعد أن باتت الرؤية واضحة من المحيط إلى الخليج، ذلك أن كل المعطيات تؤدي في نهاية الأمر إلى ضرورة وضع حد للبلطجة الأمريكية الغربية بالمنطقة، والعربدة الصهيونية في آن واحد. وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن استنفار كل هذه الأساطيل العسكرية بالمنطقة، وكل هذا الدعم الدولي للكيان الصهيوني، عسكرياً ومالياً وسياسياً، في مواجهة الصمود الفلسطيني، يؤكد أن هناك أمرا ما تدبره السماء، «فَإِذَا جاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيِفَا»، (سورة الإسراء)، تحقيقاً لوعد الله سبحانه وتعالى، بنصرة عباده المجاهدين، الذين أخذوا بالأسباب، وهو ما يدركه جيداً هؤلاء وأولئك، ويثير الفزع لديهم إلى أبعد حد، ويوجب علينا في الوقت نفسه، أن نضع نصب أعيننا طوال الوقت قول الله تعالى: «إِنْ تَكُوُنُوُا تَأْلَموُنَ فَإِنهُم يَأْلَمُون كَمَا تَأْلَموُن» (سورة النساء).
من هنا، وفي كل الأحوال، يجب ألا نفقد الأمل، وسوف نظل نعوّل على أهمية اعتزاز الشعوب العربية بعقيدتها، وعروبتها، ووحدتها، أياً كانت المخاطر الخارجية، والتحديات الداخلية، واعتبار أن الحالة الراهنة مجرد كبوة، آن لنا أن ننهض منها، بفعل ثورة الأحرار من أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق، الذي لم يبخل أبداً بالدماء والأرواح، من أجل نصرة الشعب العربي بالدرجة الأولى، ذلك أننا أمام عملية طوفان بدا أولاً وأخيراً، أنها تستهدف الدفاع عن الشرف العربي والإسلامي بشكل عام، وهو ما يدركه الآخرون من خارج المنطقة، حتى إن كنا نحن في الداخل لا نزال في طور الارتباك، في محاولة للفهم الصحيح لما يجري على الساحة.