قامت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية باعتقال أحد أبرز المطاردين من قبل الاحتلال الإسرائيلي، مصعب اشتية، في مدينة نابلس المحتلة، وفي إثر ذلك، اندلعت احتجاجات شعبية ومسلحة في منطقتي نابلس وجنين، أدت إلى مقتل أحد المتظاهرين وإصابة آخرين، إصابة عدد منهم خطرة.
كما عقدت الخلايا المسلحة التابعة للفصائل الفلسطينية مؤتمرات صحفية هددت خلالها السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وطالبتها بالإفراج الفوري عن اشتية.
يتهم العدو المقاوم الفلسطيني مصعب اشتية بالمسؤولية عن عدد من عمليات إطلاق النار التي أدت إلى مقتل وإصابة عدد من ضباط "جيش" العدو وجنوده، والتي شارك فيها برفقة الشهيد إبراهيم النابلسي، الذي اغتالته قوات العدو مؤخراً، ونجا اشتية من عدد من محاولات العدو لاغتياله.
تدلل عملية الاعتقال على عمق الأزمة التي تعيشها السلطة الفلسطينية، فبالرغم من نجاح السلطة في منع اندلاع انتفاضة فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة منذ تولي محمود عباس رئاسة السلطة عام 2005، عبر تطوير سياسة التنسيق والتعاون الأمني مع العدو، والتي أدت إلى إجهاض عشرات العمليات الفدائية في الضفة المحتلة، وبالرغم من تبني الرئيس عباس التسوية السلمية والمفاوضات خياراً وحيداً في التعامل مع الاحتلال، وأسقط خياري المقاومة المسلحة، والانتفاضة الشعبية، وأعلن بشكل واضح أن التنسيق الأمني مع العدو مقدّس، وأنه لن يسمح باندلاع انتفاضة في عهده، بالرغم من ذلك كله، لم يقدم العدو وحكوماته المتعاقبة أي إنجازات سياسية للسلطة، وتعامل معها كوكيل أمني، واعتقد العدو أن "الامتيازات" الاقتصادية وتحسن الحالة المعيشية للشعب الفلسطيني في الضفة، إلى جانب التنسيق الأمني مع السلطة ومنح قادتها امتيازات خاصة، كفيلة بمنع اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية المحتلة، إلا أن مؤشرات اندلاع انتفاضة فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة أصبحت واضحة، الأمر الذي دفع العدو إلى تحميل السلطة الفلسطينية الفشل في الحفاظ على الهدوء، وأرسل رسائل تهديد لها بضرورة مضاعفة جهودها الأمنية لاعتقال المقاومين، ويبدو أن اعتقال اشتية يعكس استجابة السلطة لمطالب العدو.
يعتقد العدو أن أحد عوامل تصاعد عمليات المقاومة هو ضعف السلطة وتراجع مكانتها وشرعيتها في الأوساط الفلسطينية، ويراهن العدو على دوره في الحفاظ على بقاء السلطة للحفاظ على البيئة الأمنية الهادئة في الضفة، وفي حال فشلت السلطة في هذا الدور، فهي تفقد دورها المرسوم لها من العدو، وهو ما تدركه السلطة، ما يدفعها إلى ممارسة جهود مضاعفة في مواجهة الحالة الثورية في الضفة المحتلة.
نجحت السلطة الفلسطينية في تخطي "اختبارها" في القدرة على التحكم والسيطرة وضبط الحالة الأمنية في الضفة، بعد اندلاع عدد من المعارك بين العدو والمقاومة في قطاع غزة منذ عام 2008، إلا أن هذه القدرة تراجعت بشكل ملموس بعد تصاعد المواجهات مع العدو في ساحتي القدس المحتلة وقطاع غزة، خلال العامين الأخيرين ، والتي شهدت تطور المواجهات الشعبية في القدس على خلفية أحداث الشيخ جراح وقضية المنازل المقدسية المهددة باستيلاء المستوطنين عليها، ومسيرة الأعلام الصهيونية، وتصاعد اقتحامات "زعران" المستوطنين باحات المسجد الأقصى، واندلاع معركة "سيف القدس" في أيار/مايو 2021 بين العدو والمقاومة في قطاع غزة وامتداد المواجهة إلى الداخل الفلسطيني المحتل، على الرغم من توظيف السلطة كل أدواتها للحد من تأثير المواجهات في القدس والداخل والمعركة في غزة على الضفة المحتلة.
تأثر الجيل الفلسطيني الجديد في الضفة، والذي عاش في كنف السلطة، بشكل عميق، بعد معركة "سيف القدس"، والأحداث في القدس والأقصى، وبات على قناعة بأن المقاومة ضد العدو هي من تجلب له العزة والكرامة الوطنية، وأن سلوك السلطة بعيد عن طموح الشباب الوطني، وأن قضيتهم ليس مجرد تحسين الحالة الاقتصادية، الأمر الذي دفعهم إلى الانخراط بشكل أكبر في مواجهة جنود الاحتلال ومستوطنيه، والعمل على شراء السلاح وتصنيعه بطرق بدائية، والتخطيط لعمليات فدائية مختلفة وتنفيذها.
تشهد البيئة الداخلية للسلطة الفلسطينية وحركة فتح مزيداً من التفكك والانقسام على خلفية الصراع على خلافة أبو مازن، الذي يعاني أمراضًا مختلفة وناهز عمره الـ 87 عاماً، ويسعى عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ووزير الشؤون المدنية وأمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، حسين الشيخ، إلى فرض سيطرته على الحركة، تمهيداً لمؤتمرها الثامن، الذي فشلت في عقده حتى الآن.
ويسعى الشيخ إلى التخلص من عدد من مناوئيه، وهو ما عكسه فصل توفيق الطيراوي من جامعة الاستقلال، وإقالته من اللجنة المسؤولة عن التحقيق في وفاة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات.
يساهم ضعف البيئة التنظيمية لحركة فتح والانقسامات داخل السلطة بين تيارات متصارعة، في إعطاء مساحة أكبر للعمل المقاوم في الضفة المحتلة، ونظراً إلى حالة الانسداد السياسي في ملف التسوية، وفقدان السلطة للشرعية الشعبية، لا سيما بعد إقدام أبو مازن على إلغاء الانتخابات العامة، وتفشي الفساد، والحد من الحريات وانتشار الفلتان الأمني، وممارسة العنف السياسي الذي أدى إلى مقتل المعارض الفلسطيني نزار بنات وإصابة الأكاديمي الدكتور ناصر الدين الشاعر، واعتقال العشرات على خلفية سياسية، كلها عوامل ساهمت في القضم من مكانة السلطة وقدرتها على ضبط الشارع الفلسطيني.
يبدو أن السلطة الفلسطينية لم تدرك بعد سيكولوجية الجيل الفلسطيني الجديد في الضفة الغربية المحتلة، وتتعامل مع الأحداث الجارية من زاوية واحدة، وهي إثبات دورها وقدرتها على الحفاظ على البيئة الأمنية في الضفة للطرفين الإسرائيلي والأميركي، إلا أنها لا تراعي الزوايا الأخرى الأكثر أهمية وتأثيراً، وهي الحالة الثورية التي أعقبت معركة "سيف القدس" والتي أثرت بشكل كبير في جيل الشباب في الضفة المحتلة.
كما أنها لم تقرأ أو أنها تتجاهل تصاعد التطرف الصهيوني وعدوانه المستمر وغير المسبوق على القدس والمسجد الأقصى، الأمر الذي يمس بل يقهر كل وطني فلسطيني غيور، كما أن قيادة السلطة ما زالت تجهل تطور العلاقات البينية بين المقاومين والمسلحين في الضفة المحتلة، التي تجاوزت الأبعاد الأيديولوجية والحزبية، لمصلحة البعد الوطني الخالص، ويبدو أن السلطة لا تدرك زيادة الانسجام والتنسيق بين المناضلين داخل حركة فتح والمقاتلين من الفصائل الأخرى، وهو ما يعكس رفض تيار عريض من حركة فتح لإجراءات وسياسات السلطة، وتشير التقديرات لزيادة رفض عناصر داخل الأجهزة الأمنية للسلطة، والتي انضم عدد منهم لعمليات المقاومة، وآخرها العملية الفدائية على حاجز الجلمة في جنين المحتلة، والتي شارك فيها الشهيد أحمد عابد أحد ضباط جهاز الاستخبارات الفلسطينية، وأدت لمقتل ضابط صهيوني.
تعكس حالة اعتقال اشتية وما أعقبها من احتجاجات شعبية ضعف إدراك السلطة للواقع الجديد في الضفة المحتلة، كما تعكس الاحتجاجات وردود الفعل القوية من التوجهات كافة، عدم خشية الجماهير سطوة السلطة الأمنية، الأمر الذي سيدفع السلطة إلى أحد أمرين، إما التشديد من قبضتها الأمنية، ما سيؤدي إلى مزيد من التوتر مع جموع الشعب الفلسطيني، أو إلى التراجع عن القبضة الأمنية وإطلاق سراح اشتية، الأمر الذي سيغضب حكومة العدو.
وبصرف النظر عن توجهات السلطة تجاه الأحداث، فهي باتت بحاجة ماسة إلى إعادة حساباتها ليس فقط على صعيد السلوك الأمني والميداني، بل مراجعة شاملة وتقييم موضوعي للخيارات السياسية الفاشلة التي تبنتها، والتي أهدرت حقوق الشعب الفلسطيني وأدت إلى تراجع القضية الفلسطينية على المستويات كافة.