عشنا منذ أيام ذكرى المجزرة السياسية للوثيقة الأخطر في تاريخ الشعب الفلسطيني، يوم توقيع صك إذعان أوسلو، أو ما يسمى اتفاقية أو معاهدة "أوسلو" التي تم توقيعها في 13 أيلول/ سبتمبر1993، والمعروفة رسميًّا باسم "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الإداري الانتقالي" ولا بد من الإشارة منذ البدء إلى أن وسمها بالاتفاقية ليس صائبًا بأي حال، لأن التوصل إلى أي اتفاقية يتم عادة بين طرفين متكافئين أو أكثر، وأن هناك تعادلًا نسبيًا بين تلك الأطراف المتعاقدة، في ميزان القوى لأنه سيكون العامل الأبرز إبان التفاوض ويكون ماثلًا دومًا على طاولة المتفاوضين وتحمل نتائج المفاوضات إلى حد بعيد أثر هذا البُعد في بنود أي اتفاقية أو معاهدة.
كما أن المفاوضات بين الدول أو الأطراف المتفاوضة تتم غالبًا مع نهاية الصراع وقد تم حسم معظم الجوانب أو جميعها وليس في بداية أو منتصف العملية كما في الحالة الفلسطينية، لأن هناك قضايا عدة لم تزل قيد البحث ولم يتم تجاوزها كي يكون التفاوض ومن ثم التوصل إلى حل نهائي أو مرحلي ممكنًا في تلك اللحظة من التاريخ.
ولهذا فقد جاء "اتفاق أوسلو" كارثيًّا بنتائجه وقد وُصِفَ من جُلّ من قرؤوه من الخبراء أنه أسوأ من "وعد بلفور" عام 1917 ومن قرار التقسيم 181 عام 1947، حتى إن شيمون بيريز عَرّاب هذا الاتفاق قال وبوضوح حين كشف جوهر ما تم التوصل إليه في أوسلو "لقد كتبناه بالعبرية وترجموه إلى العربية".
لقد سَلَّم الصك أكثر من 78.4% من فلسطين الوطن وبتوقيع سماسرة الأرض المقدسة ليصبح اسمها (إسرائيل) وأضافوا إليه جانب ما سموه تبادل أراضٍ، ومن ثَمَّ اعترافهم بحقها بالعيش في سلام، وشطب الميثاق الوطني واعتبار المقاومة الفلسطينية التي نبذوا جهارًا نهارًا فسموها إرهابًا، وتحولت العصابات المسلحة الصهيونية في الهاغاناه، وإرغون، وبيتار، وشيترن وبلماح إلى قوات تحرير، كذلك بتجريم المقاومين واعتقالهم وتسليمهم للعدو أو قتلهم كما يتم اليوم على مدار الساعة.
ومن الزاوية القانونية والسياسة معًا فإن هذه الإدارة الذاتية جاءت لتصنف الشعب الفلسطيني في وطنه كسكان غُرَباء تحت السيادة الكاملة للمحتل في كل ما يتعلق بشؤونه الاقتصادية والأمنية والدفاع والعلاقات الخارجية والحدود، وسيطرة العدو السيادية على كل المقدرات والثروات الطبيعية.
كما جاءت تسميات الهيئات الفلسطينية لسلطة أوسلو مطابقة لنظام الحكم المحلي لدى الكيان الصهيوني، فالمجلس الفلسطيني هو مجلس بلدي للسكان الفلسطينيين الذين منحتهم (دولة إسرائيل) إذنًا بالإقامة وهذا ما تؤكده البطاقات الشخصية التي نحملها، لأنها ليست هوية مواطنة بل يحق لسلطة الاحتلال إبعاد من يخالف القانون للدولة "السيدة" خارج بلادها وهو الذي يتم من خلال ممارسة سياسة الترانسفير الذي نرى بأم العين في كل ما يتعلق بأبناء الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة في عام 1948 وفي القدس والضفة الفلسطينية، وكما كان في قطاع غزة قبل أن تَدْحَرَ مقاومة الشعب الباسلة قطعان جنوده وسوائب مستوطنيه عام 2005. أما اصطلاح "السلطة الفلسطينية" فهو سلطة إدارية للسكان الفلسطينيين دون إي سيادة، كسلطة الكهرباء والمياه والأمان على الطرق لا أكثر ولا أقل.
كما أن صك إذعان عار أوسلو لا ينص على انسحاب قوات العدو من الأراضي الفلسطينية المحتلة بل ينص على إعادة انتشار الجيش المحتل "في أراضيه" وفق المقتضيات الأمنية التي ترتئيها قيادته استنادًا لحاجاته الدفاعية أو الهجومية، فالاتفاقية تنص على "انسحاب في وليس انسحابًا من" .
والطامة الكبرى تتمثل أيضًا بواحدة من ثوابت الشعب الفلسطيني وهي قضية اللاجئين التي كما تفرض بنود الصك، أن تعالج في اللجان المتعددة فهي ليست شأنًا ثنائيًّا بل تناقشها الدول المعنية بتوطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، بل ويستطرد القادة الصهاينة أن هذا الأمر يعنيهم هم في كل ما يتصل بالمستوطنين اليهود العرب الذين فرضت عليهم الحركة الصهيونية وبالإرهاب وبالعمليات الدموية ضدهم المجيء إلى فلسطين كما جرى في مصر والعراق واليمن وتونس والمغرب وفي دول عربية أخرى بل وتطالب المجتمع الدولي والدول العربية بتعويضات لهم!
وهذه الوثيقة في الواقع كما تؤكده الوقائع والنصوص أنه لا يذكر كلمة واحدة عن دولة فلسطين أو أي اعتراف بها، وكل ما تم تناوله هو اعتراف بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، دون أي تحديد لأي إقليم ينتمي إليه هذا الشعب، ولكن المنظمة التي كانت "منظمة تحرير وفلسطينية" اعترفت بكيان العدو غير الشرعي على إقليم فلسطين، وهي تُحَرّم المقاومة وتحاربها وتغطي الاحتلال وتتقاسم معه وظيفيًّا بالتخابر الأمني معه، ما أعطى لهذا العدو العنصري الكولونيالي زمنًا من ذهب لما يقارب ثلاثة عقود حتى أضحى الاستيطان المتسارع وطرقه الرئيسة والالتفافية ومعسكراته وحواجزه تطوي حوالي 90% من فلسطين المحتلة.
كثيرون هم الذين سبروا غور صك الإذعان ذاك، ومن بينهم الباحث في معهد دراسات الأمن القومي (الإسرائيلي) أوري وارتمان الذي قال إن "اتفاق أوسلو" كان بالأساس حربًا سياسية على الشعب الفلسطيني برمته وخطوة أمنية لوقف تهديد "الدولة ثنائية القومية" ولتقليص الآثار الكارثية للقنبلة الديموغرافية الفلسطينية.
ويضيف معلقون صهاينة آخرون، أن إسحاق رابين رئيس وزراء العدو الأسبق كان يهدف لوقف مخاطر التهديد الوجودي للمستوطنين اليهود في فلسطين بنسف مُجمل الهوية الوطنية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للشعب الفلسطيني.
هذه هي حقيقة صك إذعان أوسلو الذي يرى اليوم الشعب الفلسطيني ومقاومته مخاطرهُ التي لا حصر لها وهو يرسم برنامج مجابهته بكل ما أوتي لإنهاء الوجود الكولونيالي الاستيطاني.