لم تعِش منظمة التحرير الفلسطينية وكل المؤسسات المنبثقة عنها أو تلك التي ألحقت بها حياة ديمقراطية سَويّة تستند إلى صندوق الاقتراع وإلى خيار الشعب في اختيار ممثليه، كان هذا في الانتخابات التشريعية والرئاسية أو انتخابات النقابات والاتحادات والجمعيات على اختلاف صنوفها وذلك قبل قيام السلطة عام 1994 في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو في 13 أيلول 1993.
وقد كانت انتخابات المجلس التشريعي الأول عام 1996 بعد قيام السلطة عام 1994 التجربة الأولى مع أنها اقتصرت على الضفة الفلسطينية وقطاع غزة المحتلتين.
وكانت تلك الانتخابات أقرب ما تكون إلى انتخابات الحزب الواحد وفسيفساء فصائلية تابعة له، ولم تكن النتائج بعيدة عن هذا التقدير بكل ما وسَمَ تلك العملية من تدخلات ومتغيرات كان لها واسع الأثر في توصيف ما جرى بأنه غير ديمقراطي وبمخرجات مسبقة الصُنع.
ورغم استطالة المُهَل التي عطَّلت –ولو إلى حين- استمرار هذه العملية التي كان من المفترض أن تكون حُرة وديمقراطية، إلا أن هذا لم يكن ممكنًا بأي حال، فالأرض الوطنية تحت الاحتلال ولم نزل في مرحلة التحرر الوطني إلى جانب هيمنة المبادرين نحو العمل الفصائلي وحداثة العمل الجمعي وكذلك الانتشار الديموغرافي الفلسطيني على جغرافيا واسعة في أقطار اللجوء والشتات التي تركت آثارها العميقة حتى اليوم.
صحيح أن "الديمقراطية" الفلسطينية لم تزل قاصرة، بل وعاجزة عن التعبير عما هو ضروري وديمقراطي لتشكيل هرمية بُنى النظام الفلسطيني مع أن التعددية واضحة للعيان وهي أحد عناصر مكونات الديمقراطية المفترضة ولكن ذلك لا ينعكس بأي حال على وضع الانتخابات آخذين بعين الاعتبار كيف كانت عليه تلك النتائج، ودور المراقبة والمحاسبة والتشريع إلى جانب المساواة بين المواطنين قانونيًا وسياسيًا خاصة أن الإطار الجغرافي لذلك ليس سيدًا مستقلًّا إنما تعتريه عديد العوامل التي يكون فيها الاحتلال وفي أغلب الأحوال هو من يقرر معظم جوانب الحياة للمواطنين.
ويعلم الجميع أن "حركة فتح" هي التي سيطرت –ولم تزل– على المسرح السياسي الفلسطيني بفعل عوامل عديدة معلومة قبل قيام السلطة وبعدها، ومما زاد الطين بِلّة خروج نفر من قيادات العمل الوطني وبمسؤولية مباشرة من حركة فتح عن المسار الوطني حين تم توقيع ما سُمي "اتفاق أوسلو" وهو بجوهره صك إذعان للتخابر الأمني مع عدو نازي كولونيالي يعمل بكل ما أوتي من قوة للسيطرة على ثوابت ومقدرات الشعب الفلسطيني ونفي وجوده المادي على أرضه الوطنية.
وشكّل صك إذعان أوسلو، الانعطافة الأخطر منذ قيام الكيان الاستيطاني غير الشرعي في فلسطين عام 1948 ومهد الطريق لأزلام أوسلو بإسناد مباشر من الاحتلال ودعم عدد من النظم العربية الرسمية للالتفاف على نتائج الانتخابات التشريعية التي اعترف العالم بشفافيتها تلك التي عقدت بعد 10 سنوات في 25/2/2006 وذلك حين أقدم عباس على حل المجلس التشريعي وقبل ذلك الحكومة الفلسطينية وتشكيل فرق عمل بمقاييس رئيس سلطة أوسلو بديلًا للحكومات وفقًا للقانون الأساسي الذي يمثل الدستور المؤقت حتى الآن.
لقد تجاوز محمود عباس وفريقه كل حد حين وضع خططه كذلك للسيطرة على مؤسسات الحكم المحلي من مجالس بلدية وقروية، بل وذهب نحو التأسيس لسلطة قضائية تابعة للسلطة التنفيذية ولا تملك من أمرها شيئًا.
يأتي في هذا الإطار وردًا على تبعاته الحراك الجماهيري الذي نشهده اليوم، والذي تقوده النقابات والاتحادات الفلسطينية كاتحاد المعلمين ونقابة الأطباء وكذلك نقابة المحامين وجمعيات حقوق الإنسان للجم استفراد عباس بالسلطات جميعًا وقد توج ذلك مؤخرًا بنجاح الحراك الحقوقي في ضفة القسام في إلغاء 3 قرارات بقانون صدرت عن عباس، فقد نص القرار على إلغاء القرار بقانون رقم (7) لعام 2022، بشأن تعديل قانون الإجراءات الجزائية رقم (3) لعام 2001 وتعديلاته، وإلغاء قرار بقانون رقم (8) لعام 2022 بشأن تعديل قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم (2) لعام 2001 وتعديلاته وإلغاء القرار بقانون رقم (12) لعام 2022 بشأن تعديل قانون التنفيذ رقم (23) لعام 2005 وتعديلاته.
لقد نجحت الحركة الجماهيرية المنظمة في كسر حاجز الخوف لمواجهة سلطة المتخابرين وتذهب اليوم نحو نهوض عارم يتجلى في مقاومة المحتل وقطعان مستوطنيه التي تعصف بحواجزه في القدس وطولكرم وجنين ونابلس وكل الضفة المحتلة.
وعلى الصعيد الوطني تترسخ لدى الجماهير الفلسطينية في كل الوطن المحتل ضرورة إحداث تحول عميق في بنية النظام السياسي والمطالبة الجمعية بعقد الانتخابات حتى يتمكن الشعب من دفع ممثليه الحقيقيين إلى سدة الحكم لمواجهة المشاريع التصفوية للحقوق والثوابت الوطنية ولوضع حد نهائي لسلطة التخابر والتآمر على هذه الحقوق.
إن ما يجري اليوم في ضفة المقاومة يشكل علامة فارقة تُظهِرُ على نحو جلي هذا النهوض العظيم وعمق ما تختزنه الحركة الجماهيرية الفلسطينية بقيادة طلائعها المقاومة، وستشهد الأسابيع والأشهر القريبة القادمة حصاد هذا التحوّل لحصار وعزل نظام عباس وصياغة المعادلات السياسية التي تصوب المسار نحو الحريّة والاستقلال.