المتابع لأداء المقاومة الفلسطينية في غزة كنموذج متقدم وملهم للساحات الفلسطينية الأخرى، يستطيع ببساطة أن يدرك أن المقاومة الفلسطينية انتقلت من مرحلة العمل كأذرع عسكرية مشتتة، ينتهج كل منها أسلوبه الخاص في الإعداد للمواجهة وفق فلسفته ورؤيته الخاصة، بُعيد عدوان الاحتلال على غزة عام 2014، لتبدأ بالعمل وفق آلية جديدة عنوانها توحيد الجهود في إطار منظومة جامعة يتكامل فيها أداء الجميع، من أجل تحقيق هدف مشترك ضمن الجسم الجامع الذي تم تدشينه لهذا الغرض، وهو ما عرف بغرفة العمليات المشتركة، التي جاءت ثمرة جهود وطنية مشتركة.
وقد تطور الأداء وفق سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها قيادة غرفة العمليات المشتركة، والتي تضمنت العديد من لقاءات التنسيق وتوحيد المفاهيم بين الفصائل، وصولا لخوض مناورات واسعة مشتركة أطلق عليها "الركن الشديد" الأولى والثانية. وقد عُدَ هذا الاندماج وتطور مستوى الوحدة الميدانية كإنجاز يُبنى عليه لمواجهة الاحتلال بشكل موحد، للاستفادة القصوى من جهود الجميع لتحقيق الهدف المشترك.
وقد برز هذا الاختلاف جليا في أداء المقاومة بعد ذلك، حيث نجحت في الوصول لمستوى مميز من حيث الأداء في نموذجين، استطاعت هي أن تبادر فيهما لصنع بيئة الفعل التي أعدتها بما يتناسب مع قدراتها، مستفيدة من عنصر المفاجأة، لتجبر العدو على انتهاج ردة الفعل وتسحب منه عنصر المبادرة الذي احتفظ بها لآخر المواجهة. وهنا أورد نموذجين مختلفين أبدعت فيهما المقاومة الفلسطينية:
1- النموذج الأول هو معركة سيف القدس، التي انطلقت يوم 29 أيار/ مايو 2021 والتي بادرت فيها المقاومة بكسر قواعد الاشتباك المعتادة، لتبدأ بقصف القدس وضرب هدف معاد في غلاف غزة بالكورنيت بالتزامن، الأمر الذي أربك العدو أشد ما إرباك وأفقده المبادرة طول مدة الحرب، ووضعه في دائرة رد الفعل، بينما كانت كل الفصائل مجتمعة تعمل بتنسيق وتكامل، كل فصيل يعرف دوره المعروف ضمن إجراءات المعركة وفق ترتيب وتخطيط مدروس.
2- النموذج الثاني والذي يعتبر سابقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية في غزة هو تنفيذ مناورة خداعية مكتملة الأركان، للحفاظ على منجزات سيف القدس دون الدخول في معركة عسكرية تفقد غزة جزءا كبيرا من إمكاناتها التي تحشدها بشق الأنفس في ظل الحصار المفروض على القطاع، وهو ما حصل يوم 29 أيار/ مايو 2021.
فقد استطاعت المقاومة أن تجبر العدو على رفع الجهوزية لأعلى درجاتها وحشد قواته النظامية وآلياته العسكرية، واستنفار آلاف عناصر الشرطة وحرس الحدود في القدس، والأهم أن يتخذ قرار الاكتفاء بمظاهر احتفالية لمسيرة الأعلام بدل تنفيذ اقتحام واسع كما سبق وفعل في العام الماضي. كل ذلك لجأ إليه الاحتلال، في تقدير منه بأن المقاومة ستهاجم وفق سيناريو العام الماضي، وهو أمر أفرد له العدو حيزا من الدراسة والتحليل والتعبئة وحشد الإمكانات، إلا أن المقاومة لم تطلق رصاصة واحدة، الأمر الذي أدهش كل المستويات الأمنية والعسكرية في دولة الاحتلال، حيث استطاعت المقاومة تفريغ الاقتحام من مضمونه عبر التهديد الإعلامي مع إجراءات خداعية مصاحبة له على الارض، بقصد التضليل.
وقد توالت النقاشات على إثر ذلك داخل دولة الاحتلال، للإجابة على التساؤل الذي يطرح نفسه: كيف استطاعت المقاومة تنفيذ مناورة خداعية مكتملة الأركان في غزة؟
وكيف لم تنتبه أجهزة الأمن لذلك الأمر في تقديراتها؟ بل كيف استطاعت غرفة العمليات المشتركة لقوى المقاومة ضبط أفرادها ومقاتليها والسيطرة التامة على مراحل تنفيذ عملية الخداع، ونحن هنا نتكلم عن فصائل ليست نظامية بالمعنى الكلاسيكي للقوات العسكرية، حتى أن الاحتلال لم يميز النية ولم يقرأ السلوك أهو حقيقي أم خداعي؟ لذلك عُدَت من أبرز نجاحات العمل المشترك.
بقراءة ما سبق من نماذج تتضح طريقة الإدارة الجديدة التي فرضتها آلية العمل الموحد للمقاومة، لكن بالنظر لمعركة وحدة الساحات فهناك عدة اختلافات انفردت بها المعركة، وفي ضوء هذا الاختلافات يمكن قراءة أداء غرفة العمليات المشتركة.
وأذكر هنا هذه الاختلافات على النحو التالي:
1- الاحتلال في هذه المعركة سبق وأعد مسرح العمليات بما يتناسب مع أهدافه، واضعا نصب عينيه حرمان المقاومة من نقاط الضعف المتوقعة لديه ومتجنبا إمكانية مفاجأته..
2- اختار الاحتلال الزمان والمكان والأسلوب الذي بدأ به المعركة وأسلوب إنهائها، مستغلا عمليات التضليل والخداع..
3- تجهز الاحتلال بشكل مسبق لكل السيناريوهات المتوقعة، وأعد الإجراءات المطلوبة للتعامل معها.
وبرأيي هذه النقاط مجتمعة فرضت على المقاومة وغرفة العمليات المشتركة آلية رد مدروسة تفرغ أهداف العدو من مضمونها، وتكفل ردعه بأقل الإمكانات، بهدف الاحتفاظ بالقدرات القتالية المحدودة أصلا لمواجهات تعيد فيها المقاومة امتلاك زمام المبادرة.
الخلاصة
1- استطاعت سرايا القدس مدعومة بقوى المقاومة مجتمعة من الرد على العدوان الذي بدأه الاحتلال بقوة وثبات، من بداية إعلان الرد وحتى نهاية المعركة، بتميز واقتدار.
2- أفشلت المقاومة الفلسطينية مجتمعة مخطط العدو بجر المقاومة لحرب استنزاف هو أعد مسرحها وأهدافها وبدأها زمانا ومكانا، وردت على العدوان بما يتناسب معه، محتفظة بقدراتها العسكرية لوضع تفرضه هي وتصنع بيئته وأهدافه.
3- فشل العدو في تحقيق أهدافه باستنزاف المقاومة عبر ردعها وإعادتها للترميم والاستعداد لفترات طويلة وإفقادها جزءا مهما من قدراتها، تطبيقا لسياسة المعركة بين الحروب التي أقرتها الجهات السياسية والأمنية لدى الاحتلال، كإجراء مستفاد من المعارك السابقة، يهدف باستمرار لضرب مقدرات حركات المقاومة حتى تظل في حالة استنزاف.