وبعد أيام من الحرب المسعورة مرت كأنها دهر بأكمله ينجلي غبار الحرب عن قطاع غزة، لتظهر قصص حزينه وحكايات موجعه يسردها أزيزُ الرصاص وتحكيها ضربات المدافع.. خَيّمَ الصمتُ قليلاً، لتتكشّف لنا من بعده الكثير من المآسي والأوجاع التي تحتاج إلى صبر ومصابرة، من شعب عظيم كشعب غزة الذي عوّدنا مجابهة المستحيل وصولاً إلى النصرِ المؤزّر بإذن الله.
فالحربُ بطبيعتها مؤلمة، وما بعدها من آثار أكثر إيلاما، فمن شهيد ارتقت روحه إلى جريح مضرج في دمائه إلى قصص مؤلمة تسردها الأدمع وترثيها القلوب، فهذا طالب قد أنهى دراسته وحمل شهادته وعاد لوطنه مسرعا ليباهي بها والده الذي كرس حياته ليتخرج ولده طبيبا يفخر به، لكن حسرة القلب أدمت قلبه إذ كانت قذائف الموت أسرع إلى أبيه منه فأمسى كسير القلب مكسور الجناح.
وتلك عروس لم يمضِ على زواجها شهران كانت قد بنت الأحلام وتمنت الآمال في عيشة رغيدة يملؤها الحب والأمان مع شريك حياتها في بيتها الجديد، لكن آلة الحرب كانت أسرع لتدمير هذه الأحلام وقطع هذه الآمال لتمسي ممتشقة السواد ترثي عريسها المضرج بالدماء والمحنط بالكفن.
ولعلّي أقف مليًّا بملء الأسى يدمع قلبي قبل عيني.. فيا لحرقة القلب ويا لوجع الضمير ينخز في عروبتنا وأمتنا ونحن نسمع حكاية تلك المرأة التي ذهبت لتزف عروس ابنها إليه في يوم زفافه، لتخطفها آلة الموتُ وتعود مضرجة بالدماء يلفها كفن أبيض عوضا من ثوب الفرح.
أمّا الطفولة فيا لآهات أطفال غزة ويا لطفولتهم المسروقة وحقهم المسلوب وكأن الإنسانية قد تجردت من وخز الضمير وكأن العالم لا يسمع وكأن الشهود لا يرون أنها طفلة لم تتجاوز الخمسة أعوام قضت بلا ذنب، وقـتلت بلا ريب، ومعها عدد مهيب يتجاوز الـ17 طفلاً قضوا في أقل من 48 ساعة في مجازر بشعة يندى لها جبين الإنسانية أجمع وتبكي من هولها قلوب تحجرت وعيون تجمد فيها الدمع..
وكذلك حدّثتنا حربُ غزة الأخيرة عن شاب وحيد لوالديه، انتظرا قدومه بعد 13 عاما، كانا قد جهزا له كل ما يفرح قلوبهم ويسعد نفوسهم، لكنّ الاحتلال البغيض بوحشيته المقيتة نزع هذه الفرحة وأورثهم دونها حزنا وأسى ولوعة، فأمسوا بعيون دامعة وحسرة باقية لن تزول ما بقي هذا الاحتلال المجرم يقتل الفرحة ويورث الحسرة.
تلك هي حكايات غزة.. ليست من ضرب الخيال وليست أضغاث أحلام، بل هي واقعٌ مريرٌ في مدينة لم يشبع الاحتلال من دماء شعبها، فجعلَ من أطفالها ونسائها وشيبِها وشبابها حكايات وجع، سوف يخلّدها التاريخ وتسردها الأجيال.. ومع ذلك كله فإننا نرى في أهل غزة نموذج الصبر والمصابرة وسيبقى شعبها الأبي الوفي رابطا على جرحه مرابطًا على ثرى أرضه إلى أن يتحقق النصر المبين.