يثير كتاب صدر حديثًا في الولايات المتحدة بشأن التأييد والمعارضة الدولية لإقامة الدولة اليهودية بين الأعوام 1945 - 1949، اهتمامًا في وسائل إعلام إسرائيلية على عدة خلفيات، لعلّ أهمها استعادته حقيقة أن الإدارة الأميركية في ذلك الوقت كانت من أشدّ المعارضين لإقامة هذه الدولة، كما تجسّد الأمر في مواقف أبرز قادتها ودبلوماسييها، ولا سيما تزامنًا مع تداول الجمعية العامة للأمم المتحدة حول قرار 181 بشأن تقسيم فلسطين، الذي اتخذته يوم 29/11/1947.
الكتاب بعنوان "لحظة إسرائيل" (Israel's Moment)، وهو من تأليف جيفري هيرف، أستاذ التاريخ في جامعة ميريلاند، ويشمل قراءة في الأرشيف الأميركي أوصلته إلى استنتاجات عدة، منها: أن دور الاتحاد السوفييتي في تأييد إقامة "الدولة اليهودية" كان أكبر بكثير من دور الولايات المتحدة، وأن المسؤولين الأميركيين عارضوا إقامة هذه الدولة بمدى وحِدّة كبيرين، ما زالا يشكلان إغراءً للمراجعة والتمحيص.
ومعروف أن علاقات (إسرائيل) مع الولايات المتحدة كانت ولا تزال محكومة، قبل أي شيء، بالمعادلتين: الإستراتيجية و"العلاقات الخاصة". وهذه الثانية عائدة إلى بضعة أسباب، تركز القراءات الإسرائيلية من بينها على أوجه الشبه الكثيرة بين المجتمعين. وحتى 1967 كانت المعادلة الثانية غائبة أو غير مركزية، في حين سيطرت على المعادلة الأولى، الإستراتيجية، نظرة أميركية رسمية رأت الأهمية التي ينطوي عليها وجود (إسرائيل) في الشرق الأوسط، غير أنها اعتبرتها عبئًا كبيرًا. وأدّت حرب يونيو 1967، ضمن أشياء أخرى، إلى ما تسميه تلك القراءات "تعديل" العلاقة بين المعادلتين، مشيرة إلى أن هذا التعديل يبدو كما لو أنه أتى نتيجة مباشرة للحرب، غير أن قراءة متعمقة لجوهر العلاقات بين الطرفين، توضح أن النظرة التي اعتبرت (إسرائيل) عبئًا إستراتيجيًا بدأت بالتراجع في عقد الأعوام الذي سبق تلك الحرب، وتمثل الأمر أساسًا في صفقات الأسلحة التي عقدتها (إسرائيل) مع الولايات المتحدة إبّان ذلك العقد. ومن ثمّ أثبتت حرب 1967 النجاعة الإستراتيجية لـ(إسرائيل) في الشرق الأوسط، في مقابل العالم العربي والاتحاد السوفييتي على حدّ سواء.
ومما أشير إليه في الإعلام الإسرائيلي، وخصوصا في صحيفة هآرتس، تنويه هيرف إلى أن معارضة إقامة "دولة يهودية" لم تقتصر، في ذلك الوقت، على الساسة الأميركيين من ذوي النزعات الأيديولوجية المرتبطة بدول المشرق، أو من أصحاب العلاقات الاقتصادية مع صناعة النفط السعودية، بل تعدّتهم إلى معظم قادة السلك الدبلوماسي والمؤسسة الأمنية في ذلك الوقت. ورأى كثيرون منهم أن المشروع الصهيوني سيكون مصدرًا لوجع رأس في أفضل الأحوال، وخطرًا ملموسًا يتهدّد المصالح الأميركية القومية في أسوئها.
والأكثر مدعاة للانتباه أن أسباب تلك المعارضة تعود إلى رؤى استشرفت أنه، وفق المشروع الصهيوني، لا يمكن أن تكون (إسرائيل) سوى "دولة دينية عنصرية". وكان المثال الأوضح لهذا الاستشراف مذكرة أرسلها وليام إدي، المساعد الخاص لوزير الخارجية الأميركي جورج مارشال، بعد أسبوعين من توصية الأمم المتحدة بإنهاء الانتداب البريطاني في فلسطين وتقسيمها إلى "دولتين"، وأعرب فيها عن اعتقاده بأن تبنّي قرار التقسيم يتناقض مع النموذج الأميركي للدولة، ووجوب أن تكون "غير دينية، وديمقراطية، ومن دون أفكار مسبقة فيما يخص العرق والإيمان الديني". كما شدّد على أن تأييد قرار التقسيم سيكون بمنزلة تأييد لإقامة "كيان مستقلٍ ثيوقراطي يمثّل عودة إلى فترات ظلاميّة".
بعد تلك المذكرة، وجّه رئيس قسم الشرق الأدنى وأفريقيا في وزارة الخارجية الأميركية، لوي هندرسون، مذكّرة أخرى ذكر فيها أن تأييد إقامة (إسرائيل) سيكون مثل الاعتراف بحق الوجود لـ"دولة عرقية ثيولوجية تميّز ضد السكان على أساس دينهم وأصلهم"، وأكد أن مثل هذه الدولة ستكون مناقضة بالمطلق لقيم الولايات المتحدة بصفتها دولة تتعامل مع جميع مواطنيها على قدم المساواة.
وثمّة أمثلة عديدة أخرى، منها أنه في آذار/ مارس 1948 قال مَنْ أصبح وزير الدفاع، روبرت لوفيت، إن الاعتراف بـ"دولة يهودية" أشبه بمن يشتري سمكًا في البحر!