لم تكن الهجرة النبوية في سياق الدعوة الإسلامية التي يقودها رسول الله حدثا عاديّا، بل كانت تحوّلا كبيرا يحمل في أعماقه رؤية حضارية عظيمة، كانت نقلة نوعية تريد لهذه الجماعة المؤمنة أن تنتقل من الهوامش وذيل القافلة إلى حالة السيادة والتقدّم نحو الريادة الحضارية لتمسك بزمام الحضارة الإنسانية وتأخذ دورها الحضاري في قيادة الحضارة الإنسانية نحو رشدها وصلاحها ورقيّها. ولتحقيق هذا لا بدّ من بناء حاضنة قوية مرهوبة الجانب تجمع بين الحق والعدل وكل القيم الإنسانية النبيلة التي جاء بها هذا الدين إلى القوة التي تستطيع أن تحميه بل وتنشره وتمشي به بين الناس.
مصطلح "الإسلام السياسي" الذي انتشر هذه الأيام والذي يحمل في طيّاته اتهامًا لكل من يحاول أن يفعّل الإسلام في السياسة وكأن الأمر منكر ومستهجن ولا ينبغي للإسلام أن نلوّثه بالسياسة، وهذه معادلة يريدها السلطان الذي يريد أن يطلق يده في الحكم دون أن يكون له محاسبة أو أيّ تقييد بأي مرجعية دينية أو فكرية معيّنة بل يريد الانفلات من كل الموازين ولو كانت موازين ربانية وسماوية.
الهجرة النبوية تقول عكس هذا، إذ تقول إنه لا بدّ للإسلام من دولة وقوّة تمارس حضورها الحضاري وتحكم بما أنزل الله وتجعل من الإسلام مرجعية لها خاصة في السياسة والحكم، إذ لا يمكن للدين الناسخ لكلّ الديانات السابقة والخاتم لها ألا يكون له علاقة بالسياسة وأن يتركها لأهواء البشر، ولقد كانت الهجرة النبوية تجسيدا عمليا لحالة الانتقال في الدعوة من السلمية إلى القوة والتمكين، وهذا التمكين شامل لكل نواحي الحياة خاصة الدعامتين الأساسيتين اللتين تقوم عليها الدول: السياسة والاقتصاد.
وهذا بالضبط ما أقيمت لأجله حركات إسلامية تجعل من أهم أهدافها العودة إلى المرجعية الدينية خاصة في السياسة والاقتصاد وكل جوانب الحياة التي تقوم عليها الدول.
إن من لا يريد للإسلام أن يتدخّل في السياسة والحكم ويريده فقط دينا لإصلاح القلوب وتزكية النفوس وإقامة الشعائر المنفصلة عن شؤون الحياة العامة للناس، وكأنه ينكر الهجرة التي قام بها رسول الله ليقيم النموذج الكامل المطلوب للإسلام. وهذا هو ديدن أغلب الدول الإسلامية التي تحاصر الإسلام وتطارد كل من يحاول تفعيله في الحياة العامة متهمة إياهم بشتى أنواع التهم، لأن ذلك من شأنه أن يسحب البساط من تحت عروشهم التي قامت على التبعية للمستعمر وأقامت بنيانها تحت ظل سيفه برعايته وحمايته، وكانت المعادلة الضمنية أن يحظى بهذه الحماية مقابل أن يصل الاستعمار إلى أهدافه من خلاله ودون أن يضطر إلى الاستعمار المباشر وجعل التكلفة عالية لأن الشعوب المسلمة بطبيعتها ترفض الاستعمار وتقاومه، فكانت هذه الطريقة أن تبسط هيمنتها من قبل دول وحكام موالين لها ويدورون في فلكها.
الهجرة اليوم تمكين للإسلام في كل مناحي الحياة خاصة الجانب السياسي، إذ لا يعقل أن يحاصر الإسلام ويمنع من القيام بدوره في المجالات الحيوية المهمة ويهمّش في جوانب ضيّقة لا تتجاوز الأحوال الشخصية والأخلاقيات العامة، ما يسمّى الإسلام السياسي بغض النظر عن من يقف خلف هذا المصطلح هو الدعوة إلى العودة إلى المرجعية الفكرية الإسلامية التي من شأنها أن تصلح جوانب الحياة كافة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، إلخ وهذا هو تطبيق عملي للهجرة ودخول إلى روحها العملية وهدفها السامي الذي جعلها تنجح في الريادة الحضارية للحضارة الإنسانية.