فلسطين أون لاين

​بعد ثلاثة سنوات يعود لمنزله فاقدًا بصره

الطفل "ياسين" ما زال يخبئ تفاصيل الخريطة

...
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

أمام هول الذكرى، يقف الطفل ياسين فؤاد الجمال مشدوهاً مقابل مبنى بيته الجديد في حي الشجاعية شرقي غزة، يحاول تذكر آخر المشاهد التي عايشها هنا مبصراً قبل ثلاث سنوات.. تماماً، قبل أن تسقط قذيفة إسرائيلية على المكان فتردم البيت فوق رؤوس أصحابه، وتسرق حبيبتيه معاً!

يمسك والده الطيب يده ويقوده إلى حيث ستكون غرفته الجديدة قرب غرفة الجدة، ثم يهمس في أذنه: "ياسين، تصميم الدار متل ما كانت زمان، بتقدر تتذكر الممرات والغرف؟"، يهز الفتى رأسه دون أن ينبس ببنت شفة، ويجلس وحيداً على كرسي قريب في انتظار إخوته كي ينتهوا من ترتيب أثاث البيت.

تقترب أمه منه وتمسح على رأسه في محاولةٍ منها لطمأنته بأن "كل شيء سيكون على ما يرام"، وكيف لا تفعل؟ وهي التي شهدت معه آخر لحظات إبصاره عندما فرّت من القذائف وهي تمسك بيده مارين فوق جثث شهداء مجزرة الشجاعية يومذاك 20 يوليو 2014 يستذكر هو المشهد "بينه وبين نفسه"، يتنهد بعمق، ثم يتمتم "الحمد لله على كل حال".

في ذلك اليوم، كان بيتهم أرض أمان، كل سكانه كانوا واثقين تقريباً من أن لا شيء يستدعي قصفه، فهو مكتظ بالنساء والأطفال، لكن توقعاتهم كلها تحولت إلى سراب عندما أرسلت لهم طائرات الـ (F16) صاروخين هدية، أحدهما انفجر ونزل بالطوابق كلها نحو الأسفل، حيث أكثر من 45 آدمياً احتموا من شظايا القصف.

يقول ياسين: "في لحظة سقوط الصاروخ، كل ما رأيته أناساً يهرولون رؤوسهم كساها الغبار، وملابسهم مزقتها الشظايا ولوّنتها بالأحمر، أمسكني أخي الكبير لؤي من يدي، وركضت معه لا أدري إلى أين وجهتنا، كل ما أذكره أنني كنت أتعثر بالطريق الذي كان يختفي شيئاً فشيئاً أمام ناظري، هكذا حتى وصلنا إلى الشارع العام، وهناك رأيت أمي التي استلمتني معانقةً حامدةً الله على سلامتنا، ثم ركضنا معاً إلى حيث مجمع الشفاء الطبي، نعد الجثث المستلقية تحت أصوات صرخاتنا، فلما وصلنا غاب عني النور بعد أن ترك صورة وجه أمي الباكي غراساً لا تمحوه المخيلة.

بعد انتهاء الحرب، قرر الأطباء في المملكة الأردنية، ونظراؤهم في قطاع غزة، أن "ياسين" كفيف قانوني اليوم، وأن بصره مهما طال العلاج لن يعود إليه أبداً.. نظره ضاع تماماً كما ضاع بيته بين غمضة عينٍ والتفاتتها.

الإمام الصغير

"ياسين" قضى سنواته الثلاثة كفيفاً في حفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وتعلّم قراءته وفق لغة برايل لذوي الإعاقة البصرية، حتى فوجئ أهله بقراءةٍ محكمة لسورة "الشمس" بصوت الشيخ القارئ عبد الباسط عبد الصمد.

يضيف لـ "فلسطين": "الحمد لله الذي منّ علي بحنجرتي هذه، لقد ساعدني صوتي الندي في قراءة القرآن الكريم بالاندماج سريعاً في المجتمع بعد ما حدث لي، صرت أقرأ القرآن على مسامع الناس في المساجد القريبة، بل وأؤم المصلين في شهر رمضان المبارك وغيره، أمام دهشة الحاضرين وطلبهم الاستزادة"، ملفتاً إلى أنه كان لما يدعو الله للمسلمين والمسلمات وأرض الأسرى والمسرى يجهش الحاضرون بالبكاء تأثراً بصوته ربما، أو بكلماته على الأرجح" يتابع.

وينشد ابن الأعوام الأحد عشر اليوم للأقصى الجريح، برفقة أخيه يوسف "الأقرب إلى قلبه"، ذاك الذي لا يتوانى لحظة عن أخذه في مشاوير ترفيهية غالباً ما يكون وجهتها منتجع "الدولفين" حيث يستمتع هناك بممارسة السباحة.

رسالة للمحتل

"البيت طبعاً ليس كما كان، رائحة الدهان الجديد ليست أجمل من رائحة الأمان في بيت عائلتي القديم"، بهذه الكلمات أجاب ياسين عن سؤالنا حول الفروقات بين البيت الأول –ما قبل القصف- والثاني الجديد، مشدداً على أن "ما في أحلى من الشجاعية".

يلف رأسه في زوايا الحجرة التي استضافتنا فيها العائلة ليكمل: "رغم أنني لا أرى شكل الغرفة الآن، أريد أن أوصل رسالة للاحتلال من هذا المنبر، خرجت من هذا البيت قبل ثلاثة أعوام مبصراً، وها أنا ذا أعود إليه كفيفاً، دعوني أخبركم أنكم سلبتم أغلى ما أملك، ورغم ذلك: لو عدتم ودمرتم بيتنا سنعود لنبنيه من جديد فوق أرضنا التي تشربنا اسمها ضمن تفاصيل العقيدة.. وهذا هو الفرق بيننا وبينكم".

يدرس "ياسين" اليوم في جمعية النور للمكفوفين ويحصّل أعلى الدرجات سيما في التربية الدينية التي صارت تفاصيلها تشكل كل حياته إذ يقضي أوقاتاً طويلة في الاستماع إلى الدروس الفقهية في المساجد بمختلف أنحاء غزة.