انشغلت سماح الأقرع في رص أحجار الفسيفساء الصغيرة بدقة بواسطة ملقط، محاولةً المزج بين الألوان لتخرج اللوحة التي رسمتها في مخيلتها لمفتاح العودة نابضةً بالإبداع، تعلوها قبة الصخرة، وبجانبها غصن زيتون وطائران يحملان عبارة "عائدون" بلوني الكوفية الأسود والأبيض.
مدة يسيرة
وتحرص الأقرع من قرية وادي فلوكين غرب بيت لحم، وهي من ذوي الاحتياجات الفلسطينية (صم بكم) على أن تنطق لوحاتها الفسيفسائية بحبها لفلسطين والتعبير عن تراثها في الفن والملبس، مثل شجرة الزيتون، و"حنظلة"، والثوب الفلسطيني بالتطريز الفلاحي، وغيرها من معالم فلسطين الإسلامية والمسيحية.
وُلدت سماح في دولة الإمارات وهي تعاني مشكلات في السمع منذ الولادة، حرص أبواها على إلحاقها بمدرسة للصم لكي تتعلم وتكتسب مهارات، حتى تمكَّنت من أن تنطق بعض الحروف، ولكن بسبب إهمال المدرسة لها لم تعد تتحدث واكتفت بالتواصل مع محيطها العائلي بالإشارات.
فلطالما حلمت سماح (33 عامًا) بأنْ تتعلم وتحصل على شهادة جامعية، وظنَّت أنها ستحقق ذلك في بلدها، لكنها اصطدمت بعقبة جديدة عندما عادت لـ"بيت لحم" أنهم لم يقبلوها في المدرسة بذريعة أن سنها أكبر من السن المسموح بها، لكنها لم تستسلم فتعلمت العديد من الحِرف.
عبر الهاتف تواصلت "فلسطين" مع والدتها حليمة التي تحدثت بفخر عن ابنتها التي طالما بحثت عن حرفة تجد فيها شغفها حتى اهتدت إلى فن الفسيفساء.
تقول حليمة: "تعلمت ابنتي مهنة تصفيف الشعر، والخياطة، والتطريز، لكنها لم تجد نفسها في تلك الفنون، حتى التحقت قبل عامين بدورة تدريبية في "فن الفسيفساء" في أحد المراكز في بيت لحم وبالفعل استطاعت تعلمه في مدة يسيرة".
وتضيف: "ومن ثمّ خضعت سماح لدورة متقدمة في فن الفسيفساء وتخطتها بمهارة عالية، وهذا الأمر حاز إعجاب القائمين على المركز وطلبوا منها العمل لديهم، إذ تقوم بإنتاج لوحات تُعرض لغرض البيع وتحوز إعجاب الناس".
ثقة بالنفس
وتذكر والدتها أن سماح اختارت ذات مرة ثوبًا مطرزًا بالتطريز الفلاحي، واستوحت لوحة فسيفسائية منه، التي حازت إعجاب صاحبة الثوب وأثنت عليها.
عمل سماح في إنتاج لوحات الفسيفساء، انعكس على ثقتها بنفسها، فأصبحت شخصية اجتماعية، قوية تعتمد على نفسها، وتحسنت حالتها النفسية لأنها وجدت شغفها في هذا الفن، وتغمرها السعادة كلما أنجزت لوحة جميلة.
وإتقان سماح للفسيفساء لم يكن صعبًا عليها، فهو يناسب مهاراتها، فهي منظمة جدًّا، ودقيقة للغاية، فالتعامل مع حجارة صغيرة يحتاج إلى صبر طويل فقد تحتاج إلى عدة أسابيع لكي تتمكن من إنهاء لوحة واحدة، وفق والدتها.
وتلفت إلى أن ابنتها أصبحت قوية الشخصية تدافع عن حقوق زميلاتها من الصم، وتدعوهن للعمل معها وتساعدهن على تعلم فن الفسيفساء لكي ينشئن مشاريعهن الخاصة لتدر دخلًا عليهن يعينهن على مصاريف الحياة.
وتستضيف سماح في بيتها صديقاتها من الصم (اللاتي يصطدمن برفض آبائهن التحاقهن بمراكز تعلم الفسيفساء)، إذ تعلمهن هذا الفن.
وتحلم سماح بأن تصبح شخصية مشهورة وتفتتح مشروعها الخاص بفن الفسيفساء، وتتمكن من تدريب عشرات الأشخاص الصم الذين يواجهون تهميشًا من المجتمع والمؤسسات الحكومية، والأهلية، لكي يخرجوا من قوقعتهم.
وأصبح في رصيد الأقرع مئات اللوحات التي تتزين فيها جدران مركز "بيت لحم للفسيفساء" الذي طور من شغفها ورغبتها الجامحة في تعلم صناعة الفسيفساء.
ويرتاد المركز آلاف السياح سنويًّا، بفعل المكانة الدينية التي تشغلها مدينة بيت لحم، وتستغل أسرة المركز معرضها داخل المركز للإشارة إلى القضية الفلسطينية، وتعرض لوحات لها علاقة بالقضية الفلسطينية، مثل شجرة الزيتون والكوفية والمسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيستي المهد والقيامة.