النضال الدائر في القدس، في جوهره، إصرارٌ فلسطينيٌ على رفض السياسات والممارسات الاحتلالية لتغيير واقع المدينة الجغرافي والسياسي منذ احتلالها، ورفضٌ لأفكار التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، إلا أنّ قرار حكومة الاحتلال، أخيرا، تركيب بوابات إلكترونية في باحات المسجد الأقصى، كان بمثابة شرارة لتفجير الغضب الفلسطيني في المدينة. حيث إنّ الانتهاكات الاحتلالية، التي تسارعت في السنوات الأخيرة، في محاولةٍ لفرض واقع جديد في المسجد الأقصى، عملت على إثارة غضب المقدسيين. ولا يقلل هذا من غضب الفلسطينيين في باقي مدن الأرض المحتلة الذين رأوا في أحداث الأقصى محرّكًا للتعبير عن غضبهم من الوضع القائم. وفي شأنٍ متصل، أعلن رئيس السلطة، محمود عباس، "تجميد الاتصالات مع دولة الاحتلال على المستويات كافة" إلى حين إلغاء (إسرائيل) تصعيد إجراءاتها ضد الفلسطينيين. فما الذي استجدّ لدى عباس، ودعاه إلى أنّ يتخذ هذا القرار؟ فالرفض الفصائلي والرأي العام الفلسطيني لجدوى التنسيق الأمني ليس جديدا، فما الذي تغير في "المقدّس"؟ والذي يطغى على جلّ قرارات سلطة "الحكم الذاتي"، فلا يغيب عنا هنا أنّ "التنسيق الأمني المقدس" هو ذاته ما عمّق من الانقسام في الحالة الفلسطينية، وزاد من مختلف الانتهاكات الاحتلالية، وأنّ القبول بالوضع الراهن من دون تغيير حالة كان يراها بعضهم طبيعية وضرورية. أما الرافضون للتنسيق الأمني وحدهم يرون أن المقاومة والنضال الفلسطيني ضد التنسيق الأمني وممارسات الاحتلال حقهم الطبيعي.
ومثلما هي السياسات، نجد أن الاختلاف في وجهات النظر في المؤسسات العامة عند اتخاذ القرارات هو حالة طبيعية، طالما تخضع لقواعد تحليلٍ علمية، كقياس الكلفة والفائدة (Cost and Benefit Analysis)، وإن كان الكاتب يختلف مع هذا المنهج، حيث تراعي هذه المؤسسات استخدام أدواتٍ بهدف معرفة التكاليف والعوائد (Rewards) من القرار أو السياسة، بحيث يرتكز القرار في هذا التحليل على قاعدة تعظيم المنفعة (Utility) لأكبر قدر ممكن من الناس، بينما نلاحظ أنّ القرارات في المؤسسات غير الراسخة، والتي تقوم في أساسها على "الفرد" الواحد تحتاج مقاربة أخرى. وهنا، يغدو أن اللغط المفاهيمي يظهر في الفرق بين العوائد (Rewards) والمنافع (Utility) في المجالين، العام والخاص. ومن هنا، فإنّ إمكانية أنّ تخرج السلطة من الجدل الميكانيزماتي المرتبط بنشأتها وتطورها، والبقاء من دون التنسيق الأمني في إطار "الحكم الذاتي"، يهددان مصالح أفرادها ومنافعهم، ما يطرح انقسامًا في بيروقراطية السلطة العميقة نفسها، والمرتبطين معها بمصالح بنيوية على ضوء فوائد يحققها الطرفان في المكانة الاقتصادية والاجتماعية، فالصفة الوظيفية المرتبطة بسلطة "الحكم الذاتي" مع الاحتلال قدّمت، هذه المرة، "تجميد الاتصالات" بديلا جديدا تُحقق من خلاله العوائد الخاصة بالضغط على (إسرائيل) للعودة إلى المفاوضات، ورمي الكرة في ملعب بعض القوى الإقليمية والدولية، للضغط على إسرائيل، للتراجع عن قرار البوابات الإلكترونية والعودة إلى طاولة المفاوضات. هذا ويمثل القرار مناورةً تمتص فيها السلطة الغضب العام في الشارع الفلسطيني، خصوصًا بعد إدانة الرئيس الفلسطيني عملية القدس، التي لاقت سخطًا شعبيًا، فعلى أقل تقدير هذه العوائد على السلطة الفلسطينية، لا تلقى قبولًا لدى الشارع الذي بات ناقمًا، خصوصًا بعد القرارات التي اتُخذت بحق قطاع غزة.
وعلى الرغم من حجم التعقيدات التي تلحق إمكانية الانسحاب الفردي من الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، في ظل سلطة محدودة ومقيدة الصلاحيات، فإن السلطة الفلسطينية لن تركل (إسرائيل) خارج العلاقة معها، بل باتت على قناعةٍ بأن التنسيق الأمني، بشكله الحالي، لا يحقق مصالحها، فالسياسات التي اتخذها الرئيس عباس بحق مواطني قطاع غزة بضغوط من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، باتت تؤكد أن أولوية عباس اليوم تكمن في تحقيق "السلام" مع الإسرائيليين، بغض النظر عن عواقب ممارساته بحق أهالي قطاع غزة، ومضمون هذا "السلام" وشكله، وأية تطورات إقليمية ودولية. لذا، فالرئيس عباس الذي يخشى أن يكون خارج الحسابات في ظل فوضى الموقف الأميركي، وتصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وعودة القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، إلى قطاع غزة عبر الاتفاق الثنائي مع حركة حماس، يرى أن "تجميد الاتصالات" جزءٌ من معركته لممارسة الوصاية على حركة حماس، والضغط على (إسرائيل) والمجتمع الدولي، لتحقيق المنافع والعوائد أمام خصومه السياسيين، والحفاظ على مكانته. وهنا، ينبغي على السلطة الفلسطينية أن تعي أن وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال بأشكاله كافة بات مطلبًا وطنيًا لا مصلحيًا، وأن يتّسق هذا القرار مع إلغاء الممارسات الصادرة بحق أهالي قطاع غزة.