توافق هذه الأيام الذكرى السنوية الـ١٦ لتنفيذ عملية "الوهم المتبدد" في ٢٥ حزيران/ يونيو ٢٠٠٦، التي استهدفت موقعًا لجيش الاحتلال الإسرائيلي شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وقد أسفر الهجوم على تفجير دبابة عسكرية (ميركافاة) التي كانت تقوم بأعمال الحماية والإسناد في الموقع، وأيضا قتل اثنين من طاقمها، وإصابة آخر، ووقوع جندي على قيد الحياة في قبضة القسام في حينه هو الجندي جلعاد شاليط من داخل دبابته، وكان المسؤول عن العملية ثلاثة أجنحة عسكرية فلسطينية في غزة، هي كتائب القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وألوية الناصر صلاح الدين، وجيش الإسلام.
وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة للعملية -فكما يقولون- "ما خفي أعظم"، لكن ما أحببت الإشارة إليه هنا الأسباب والنتائج للعملية التي كانت تعد من أصعب وأعقد العمليات الفدائية منذ انطلاقها على الإطلاق، لدقة حساباتها الزمنية والتكتيكية، وأكثر من هذا وذلك جرأة ومهارة المنفذين والمستوى العالي للتخطيط والتقنية العسكرية التي كانوا يحظون بها، الأمر الذي مكّنهم من الوصول لعمق الثكنة العسكرية للاحتلال، المحصنة أمنيا ولوجستيا، لكونها كانت تقوم بمهام الإسناد والحماية لقوات الاحتلال في جنوب فلسطين. ويمكن تلخيص الأسباب في نقطتين هما:
أولا: أن العملية جاءت ردا على محاولة الاحتلال معاقبة الشعب الفلسطيني على خياره الحر بانتخاب حركة حماس في الانتخابات التشريعية في عام ٢٠٠٦، وخلط الأوراق، وتحويل هذا الفوز إلى انتكاسة سياسية للشعب الفلسطيني، فقد اتبع الاحتلال في تلك الفترة التي سبقت هذه العملية التصعيد والعدوان العسكري والقتل الممنهج للفلسطينيين في الأسابيع الثلاثة الأولى من تشكيل الحكومة العاشرة برئاسة إسماعيل هنية. ثانيا: التصعيد ضد الأسرى داخل سجون الاحتلال، حيث بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال عشية الانسحاب من القطاع أكثر من ٨٠٠٠ أسير وأسيرة.
فكما كانت لعملية "الوهم المتبدد" أسباب كانت لها بالطبع نتائج، فرغم الفاتورة التي دفعها الشعب الفلسطيني من تضحيات جسيمة، فإنها آتت أكلها، كيف لا وقد أذعن الاحتلال لمطالب المقاومة، بعد أن عاش حالة من اليأس والإحباط والتخبط العسكري والسياسي، وقد توصل في النهاية لنتيجة واحدة مفادها أن استعادة الجندي شاليط لا يمكن أن تتم إلا بدفع الأثمان. فكان أول هذه الأثمان إفراج الاحتلال عن (٢٠) أسيرة فلسطينية، وثلاثة أسرى من الجولان السوري، مقابل شريط فيديو لمدة دقيقة للجندي الصهيوني الأسير شاليط، من خلال صفقة الحرائر التي تمت برعاية الوسيط الألماني. والثاني إبرام صفقة وفاء الأحرار بوساطة المخابرات المصرية، حيث تم الإفراج عن أكثر من ألف أسير، وتم الإفراج عنهم على مرحلتين. والثالث أن العملية مثلت على مدار خمس سنوات مضت لأسر شاليط كابوسًا يلاحق الإسرائيليين في أحلامهم ويقض مضاجعهم، شعبًا وحكومةً، ساسةً وعسكر، فقد أحدثت خلافات، وانقسامات داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وجعلت حكومة أولمرت في وضع حرج للغاية، ما أفقدها مصداقيتها لدى جمهورها الصهيوني، الأمر الذي عجل في إسقاطها، وتفكك حزب كاديما الذي كان يتزعمه مرة وإلى الأبد.
أخيرا، لعل أهم نتيجة حققتها المقاومة الفلسطينية في غزة من عملية "الوهم المتبدد" انتقالها من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، حيث كانت قبل ذلك تعمل على التصدي للاجتياحات الإسرائيلية على قطاع غزة بين الفينة والأخرى، وأن نجاح العملية -وفق الإمكانات الفلسطينية المحدودة- يحسب لكتائب القسام الجناح العسكري لحماس على مدار خمس سنوات وتمكنها من إخفاء شاليط للمرة الأولى في تاريخ المقاومة، وفشل كل المحاولات العسكرية والأمنية الإسرائيلية للوصول إليه. وها هو التاريخ يعيد نفسه بتكرار الكرة مرة أخرى، فقد أعلنت القسام مرارا أنها تأسر عددا من جنود الاحتلال، وهم رهن موافقة الاحتلال على صفقة تبادل للأسرى الفلسطينيين على غرار صفقة "وفاء الأحرار"، وكعادته فالاحتلال يماطل ويلعب على عامل الزمن، أملا منه في العثور على طرف خيط لجنوده الأسرى، ولكنه في نفس الوقت يراوغ للتفاوض، لربما مراهناً على أن إطالة أمد التفاوض ستخفف من الشروط الفلسطينية، وخصوصاً بشأن أعداد الأسرى وشخصياتهم ونوعية الأحكام التي يواجهونها، لكنه جرب هذا سابقا وفشل أمنيا فشلا ذريعا في الوصول إلى جنوده الأسرى لدى القسام، وأيضا فشل عسكريا في كل جولة قتالية أمام صواريخ المقاومة التي دكت عمقه، كما فشل سياسيا في فرض شروطه ومحاولته إعلاء قوة الردع، إضافة إلى فشله اقتصاديا في ابتزاز المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس دون جدوى، لاستمراره بفرض الحصار وسياسة تجويع للسكان في قطاع غزة، فالمقاومة تصر على شروطها ومطالبها، فهل الاحتلال الإسرائيلي مستعد الآن لعقد صفقة وفاء أحرار (٢)؟