فلسطين أون لاين

​"الهندسة الميكانيكية" صنعت حِكَايته

محمد أبو هيبة عقليةٌ أحبَّت الجنون ولم تعرف المستحيل

...
غزة - عبد الرحمن الطهراوي
  • -"ما رأيك بفكرة تصنيع قلبٍ صناعي؟".
  • رد المهندس محمد أبو هيبة على عرض الدكتور محمد نصار بعدما رمقه بنظرات تعجب قائلاً:
  • -"قلب صناعي، وهنا في غزة المحاصرة؟!، اشرح أكثر".
  • -"نعم، مثلما سمعت، فالفكرة تراودني منذ سنوات، عرضتُها على الكثيرين، ولكنهم عدوها ضربًا من الخيال".
  • صمت أبو هيبة بضع ثوانٍ _فالفكرة جنونية للوهلة الأولى_ قبل أن يرد:
  • -"أعطني ملف المشروع وآليات التصميم المقترحة، وسنتواصل لاحقًا".


مضت 24 ساعة على لقاء "المحمدين" قبل أن يتصل المهندس بالطبيب ليخبره بقراره: "لا شيء مستحيل، لنتوكل على الله".
على الفور بدأ الاثنان جلسات متلاحقة لمناقشة الإجراءات الفنية وتنفيذ تجارب أولية، قبل أن تذيع وكالات الأنباء أواخر الشهر المنصرم خبر "صناعة أول قلب صناعي في قطاع غزة، وجرب بنجاح على كائن حي (خروف)".

اللقاء الأول

يا لها من مفارقة!؛ فقبل الثاني والعشرين من شهر آذار (مارس) 2016م لم يكن المهندس أبو هيبة يعرف حقيقتين: الأولى أن الفحوصات المخبرية أثبتت وجود ورم حول قلب زوجته بعد مضي عامين من التشخيص الخطأ، والحقيقة الأخرى أن عقليته الميكانيكية ستشترك في صناعة القلوب.

في صباح اليوم التالي قطعت إدارة قسم جراحة القلب المفتوح في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة إجازة رئيسها الدكتور محمد نصار، بعدما استدعته إلى عملية طارئة لإزالة ذلك الورم الذي يجعل حياة الزوجة (رنا) على المحك، فهو يتسبب لها بنوبات اختناق وانتفاخ عام في الجسم.

ابتلع "محمد" هول صدمة النتائج، محاولًا مخاطبة زوجته الممددة على سرير أبيض استعدادًا لإدخالها إلى غرفة العمليات أنْ "كل شيء سيكون على ما يرام، كوني قوية مثلي"، لكن لغة العيون سرعان ما كشفت حقيقة الحال بعدما غرق الاثنان في أنهار البكاء.

دار عقرب الساعة الكبير 4 مرات، ومع بدء الدورة الخامسة خرج الدكتور نصار من باب غرفة العمليات، مبشرًا المهندس الذي تسمر في مكانه واستوطن الخوف قلبه قلقاً على شريكة حياته بأن "العملية نجحت"، ليقابله أبو هيبة بـ"الشكر" بعدما تأهبت عيناه للبكاء فرحًا.

لم يكتفِ أبو هيبة بآيات العرفان السابقة، بل استقل سيارته ذات يوم قاصدًا مكتب الدكتور نصار ليثني على نجاحاته ويتفقا معاً على قدرة الإنسان على هزيمة الظروف، مهما كانت معقدة، وأن النجاح مرهون بقوة إرادة الإنسان ومدى إيمانه بذاته.

و"الكلام يجر الكلام"، كما يقال، فإذا "الجراح" يعرض على "المهندس الميكانيكي" فكرة القلب الصناعي، على أمل المساهمة في إنقاذ حياة المحاصرين، وبعد أشهرٍ من العمل المضني كتبَ "المحمدان" أول فصول حكاية "صناعة القلب".

"فلسطين" جهزت قلمها ودفترها لتروي خفايا بطلي الحكاية، فطرقت أولًا "باب الهندسة" قبل أن تنتقل لاحقًا إلى "حوارٍ" آخر مع صاحب اليد الجراحية.

استكشافٌ متبوع بــــ"خراب"

يقدم ضيفنا في بداية حوارنا معه بطاقة تعريفية مقتضبة تكشف حيثياتها عن شغف أبو هيبة بالهندسة منذ سنوات طفولته الأولى، وفي ذلك يتحدث: "ولدتُ عام 1965م في مخيم خان يونس للاجئين، لأعيش وسط عائلةٍ مؤلفة من خمسة أولاد ومثلهم من البنات، عُرف عنهم تعلقهم بالعلم".

وعلى محدودية إمكانات الوالد "سليمان" أنهى جميع أفراد العائلة تعليهم الجامعي، يضيف: "تلقيتُ التعليم الأساسي في مدارس (أونروا)، وبامتحان الثانوية العامة (التوجيهي) حصدت أعلى درجة على مستوى طلبة مدينتي بمعدل 90.3، بفارق ست درجات عن معدل الطالب الأول على مستوى مصر، وفق النظام الذي كان سائدًا آنذاك".

يوقف الطالب النجيب سرد حكاية عبوره محطات الحياة، ليستذكر ملامح التعب التي كانت تنطق بها قسمات وجه والده عندما يعود إلى بيته في ساعاتٍ متأخرة، بسبب التزامه بالعمل في وظيفتين منفصلتين، حتى يتسنى للحاج سليمان توفير نفقات تعليم أولاده الصغار في ظل شظف العيش.

وبلغة المُمتَّن الملتزم ببر الوالدين يواصل أبو هيبة حديثه: "رسم لي والدي خطوط الحياة بمثابرته غير المحدودة، فقد عُرف بعدم رضوخه للواقع، وحبه للتعلم الذاتي على قاعدة التجارب أكبر معلم للإنسان، وكذلك شق كل الدروب ليبني مملكة أولاده العشر".

ويفصح محمد أكثر عن خاصية التعلم الذاتي التي تلقفها من والده منذ الصبا، إذ يتابع بابتسامة طفلٍ ما زالت بقاياه في أعماقه: "عندما كان يطلب مني أحياناً تصليح عطب في آلة كهربائية مثلاً لم أكن أكتفي بتصليح منطقة الخلل، بل أسمح ليدي بالتسلل خفية داخل أجزاء أخرى سليمة رغبة في استكشاف مكوناتها، فأتسبب بعطب جديد، إن لم يكن بمجموعة أعطاب".
ولكن رحلة الاستكشاف المتبوعة بـ"الخراب" عادة سرعان ما تنتهي عندما يصيح الأب المكافح في وجه فلذة كبده المشاكس، فيقفز الأخير من "مسرح الجريمة" كمن لدغه عقرب صحراوي في ليلة ظلماء.

وعن بداياته في دراسة الهندسة يفتح صفحة شائقة لا رتابة فيها، قائلاً: "لم أعبر نفق الحيرة في اختيار التخصص الجامعي بعد حصولي على شهادة الثانوية، فسارعتُ إلى التسجيل في التخصص الذي أحببته منذ طفولتي، أي كلية الهندسة بجامعة بيرزيت".

لم تمض الحياة الجامعية كما كان مخططاً لها، فسرعان ما اصطدم بالإغلاقات المتكررة للجامعة، إما بسبب المواجهات مع الاحتلال أو نتيجةً لإصدار الحاكم العسكري الإسرائيلي أمرًا بتعليق الدوام إلى أجل غير مسمى، وبسبب ذلك قضى خمس سنوات دون أن ينهي دراسته.


اتفاقٌ محدود الكلمات

وعلى وقع معاناة الإغلاق المتكرر للجامعة عزم أبو هيبة على السفر إلى الولايات الأمريكية عام 1989م، لاستكمال متطلبات الحصول على شهادة البكالوريوس بالتخصص نفسه من جامعة توليدو في ولاية أوهايو الأمريكية.

ومنذ أن وطئت قدما ضيفنا أرض ساحة الجامعة أضمر في قرارة نفسه اتفاقًا محدود الكلمات، ينص على الآتي :"يجب أن أنهي الساعات الـ(80) المتبقية في غضون عام دراسي واحد بتفوق لا بمجرد نجاح عابر".

"وهل أوفيتَ ببنود الاتفاق الذاتي؟"، يجيب: "لاشك، بل تفوقت على الطلبة الأمريكان ووفرت مبلغاً من المال، وبعد التخرج ببضعة أيام حصلت على وظيفتين بدل الواحدة"، بسرعة قاطعته لأطرح عليه سؤال المُتعجب: "وكيف حدث كل هذا يا دكتور؟!".

ارتشف رشفة من عصير حبيبات البرتقال قبل أن يجيب: "طوال ذلك العام لم أركن إلى الراحة مطلقاً فأنهيتُ الساعات المتبقية خلال ثلاثة فصول، وتجاوزتُ ثمانية مساقات وفق نظام تعليمي يتيح للطالب الاكتفاء بتقديم الامتحان النهائي دون تسجيل المساق وحضور محاضراته".

ويزيد بعد مقاطعة هاتفية: "اعتمدتُ على نفسي بدراسة المساقات الثمانية السابقة بمعدل 25 ساعة، وفي الوقت نفسه وفرت نحو 4900 دولار في تلك السنة، كون أن ثمن الساعة في نظام الدراسة الذاتية خمسة عشر دولارات فقط، أما تكلفة الساعة الرسمية فيبلغ 210 دولارات".

ويصف تلك المرحلة بـ"المهمة الصعبة"، قائلاً: "كنت أسابقُ الزمن لإنهاء المساقات المقررة، ولجأت إلى الدراسة المكثفة في الإجازات، وأتقنت اللغة الإنجليزية في الفصل الثاني بعدما كنتُ أقضي بضع ساعاتٍ يوميّاً في قاعة المحاضرات كـ"أطرشٍ في زفّة"، لأني لم أكن أستوعب لغة المحاضر على أكمل وجه".

وعندما أراد محمد طي صفحة رحلة البكالوريوس الممتدة من الوطن المنقسم على نفسه إلى الولايات المتحدة تراءى له مشهداً كان آخر عهده بالجامعة، إذ يستذكره: "في المحاضرة الأخيرة التف الطلبة حول الدكتور، مبدين رغبتهم بعدم تقديم الامتحان النهائي، وفق أنظمة الجامعة التي تتيح للطالب الخريج عدم تقديم الامتحان بعد موافقة المدرس".

ولكن جميع طلبات الطلبة قوبلت بالرفض الصارم، وبينما كان أبو هيبة يقف بعيداً عن طاولة الدكتور خاطبه الأخير عن بعد بـ: ""Mohammad do not come to the exam. You got an A، أي "لا تأتي للامتحان علامة كاملة لك"، ثم كان له ما سمع، خاتماً رحلته الكفاحية الأولى بحصوله على البكالوريوس بامتياز.

بدل الوظيفة وظيفتان


مضت بضعة أيام على حصد الشاب الفلسطيني أول إنجازات الغربة، ليتلقى اتصالا يفيد بقبوله للعمل كمبرمج في إحدى الشركات الأمريكية مقابل ثمانية دولارات للساعة وفق 9 ساعات عمل يومية، وبعد قرابة الأسبوعين تلقى اتصالا آخر يفيد بقبوله للعمل في شركة أخرى بوظيفة مصمم مقابل 15 دولارا للساعة.

سرعة تعلم أبو هيبة لأساسيات العمل في وظيفة المبرمج وضخامة إنجازه اليومية ودقته، دفع بإدارة الشركة إلى زيادة الراتب بعد الشهر الأول الـ 12 دولارا لكل ساعة، ليصل مع نهاية الشهر الثاني للضعف، ولكن بعد ستة أشهر قدم استقالته مفضلا العمل كمصمم فقط.

ويعلق على ذلك: "تسبب لي العمل المزدوج بالإرهاق الجسدي، فتركت الوظيفة الأولى والتزمت في الثانية، بالتزامن مع دراسة متطلبات درجة الماجستير بذات الجامعة "توليدو".

في عام 1993 أضاف أبو هيبة إلى حصالته امتيازا جديدا عندما نال قبول الماجستير، وفي ذات العام قرر العودة إلى غزة رغبة منه بالبقاء بجوار والديه ليس إلا، تاركاً خلف ظهره فرص عمل كانت من الممكن أن تؤهله لتقلد إدارة أرقى الشركات الهندسية على مستوى الولايات المتحدة، مثلما حدث مع بعض زملائه في الوقت الجاري.


وبعد قرابة الشهر من وصوله إلى غزة شاهد أبو هيبة إعلانا في صحيفة محلية يفيد عن حاجة جامعة بِيرِزيت لعضو في الطاقم التدريسي، وعلى الفور قدم أوراقه فقبل بالمرحلة الأولى ثم تفوق على ستة متقدمين جميعهم حاصلون على درجة الدكتوراة.

قرارٌ صائب


للوهلة الأولى، سيطرت علامات التعجب على وجوه طلبة المستوى الثالث الذين التقاهم أبو هيبة في أولى محاضراته، سائلين أنفسهم "من هذا الذي سيشرح لنا الهندسة وهو ربما يصغرنا بعدة أعوام؟".

كان الطلبة محقين في تعجبهم فالملامح الظاهرية لأبو هيبة أظهرته وكأنه في مطلع العشرينات وليس في آخرها ولكن سرعان ما تبدد استغراب الطلبة، عندما أظهر أستاذهم الجديد مدى إلمامه بتفاصيل المادة وقدرته على إيصال المعلومة بسلاسة، والدليل في الفقرة التالية.

بعد نهاية العام الدراسي الأول أجرت إدارة الجامعة تقييما شاملا للطاقم التدريسي _كما جرت العادة_ حينها حصل على أعلى درجة على مستوى قسم الهندسة الميكانيكية، لأبادره بالسؤال "وما هي العوامل التي ساعدتك على التميز؟".

وأوجز الأسباب بقوله "تكمن عناصر المحاضرة الجيدة بالتحضير المسبق بما يفوق مستوى الطلبة والتنوع في المصادر والوسائل التعليمية، وقبل ذلك يتوجب على المدرس الجديد أن يكسر حاجز الخوف في الدقائق الأولى لدخوله القاعة وأن يتقن مهارات لغة الجسد".

في تلك الفترة، درّس المهندس محمد طلبة كانوا زملاء له على مقاعد الدراسة، قبل أن يحزم حقائبه للسفر إلى أمريكا لاستكمال رحلة طلب العلم، ليعلم حينها أن قراره بالابتعاد عن الوطن الأم لم يكن خاطئا رغم مرارة الغربة.

يضيف "بعد عامين من خوض التجربة الأكاديمية الأولى والارتباط بشريكة العمر في ذات العام، قررت مغادرة الجامعة والتوجه للعمل ضمن الطاقم التأسيسي لشركة أمريكية متخصصة بصناعة الساعات اليدوية، اتخذت من الشق الغربي لمدينة القدس المحتلة مقراً لها".

ولا شك أن عمل ضيفنا وسط طاقم يهودي كان بمثابة تجربة مثيرة، وهذا ما يوضحه: "خلال عملي في شركة ""Timexما بين عامي 1995 و1997تعرفت على نفسية "اليهودي" ولمست عن قرب مدى حقده وغيرته من تفوق أعدائه عليه".

لغة التحدي التي لازمت أبو هيبة في سنوات دراسته الأولى تبعته كذلك في تجاربه العملية، إنها لغةٌ تظهر في عقدةٍ بين حاجبيه تكسرها ابتسامة بيضاء في الآن نفسه؛ تحديداً حين تذكر ذلك الجندي الإسرائيلي الذي حاول استفزازه أثناء عبوره منفذ بيت حانون/إيرز للذهاب إلى مقر عمله.

  • الجندي: لما تمرق (تسير) من هون (هنا) بتنزّل عينك ماشي؟
  • محمد: طالع على شغلي شو بدك؟!
  • الجندي: بقلك بتنزّل عينك.
  • محمد: ما بنزل عيني!
  • الجندي: برجعك على غزة؟
  • محمد: رجعني.
  • الجندي: أرجع ما في دخول.

بعد سويعات من ذلك التصادم، فرض جيش الاحتلال إغلاقا كاملا على غزة والضفة بعد وقوع أربع عمليات فدائية داخل الخط الأخضر، وعلى إثر ذلك منع أبو هيبة من الوصول إلى عمله إلا أن الشركة الأم انتدبته للعمل في الفلبين قبل أن يعاد فتح الحدود.

يزيد: "بعد أسبوعين من العودة إلى العمل قدمت لإجازة إلا أن المدير رفض طلبي بحجة أني غبت عن العمل أسابيع عدة، ولكني تمسكت بمطالبي وقلت له "دولتك ما يسمى (إسرائيل) هي التي أعاقت وصولي فاذهب وطالبها بخسائرك الناتجة عن تغيبي"".

محاولات وإنجازات

وكأن الحياة بالنسبة له "قممٌ" من المغامرات المدروسة اختار أن يتقافز بينها بجسارة؛ قرر أبو هيبة خوض غمار العمل الحر عبر تأسيس شركة هندسية يديرها في مدينة غزة، بعدما قدم استقالته من ""Timex، نتيجة لسوء ظروف العمل وقضائه جل وقته خارج البيت، قبل أن تغلق الشركة أبوابها كلياً وتطرد موظفيها اليهود بسبب سوء أدائهم.

وبعد عامٍ واحد من إغلاق المقر الرئيسي للشركة عرضت الأخيرة عليه فكرة تأسيس فرع لها في الضفة الغربية وتولي إدارته، إلا أن أبو هيبة رفض العرض ولكنه ساهم في تسهيل إجراءات تأسيسه.

وتجدر الإشارة إلى أن الشركة الرئيسية المختصة بصناعة الساعات عزمت بعد تأسيس فرعها الأول في القدس المحتلة على فتح مصنع كامل لها في غزة أو الضفة بطاقة 300 عامل ومهندس فلسطينيا، إلا أن التدخلات الإسرائيلية أفسدت المشروع، كما ذكر أبو هيبة.
بهدوئه الشائق استطرد: "عام 1998 بدأت العمل في دائرة التعليم المستمر بالجامعة الإسلامية، واقترحت فكرة إنشاء فرع للدبلوم لمدة عامين وبالفعل نفذ المقترح وكلفت حينها بمنصب النائب الأكاديمي للكلية الجامعية حتى 2002".

عاد أبو وهيبة لممارسة التجربة الأكاديمية في قسم الهندسة الصناعية، قبل أن يحصل خلال عام 2005 على منحة لدراسة الدكتوراة وبذات الوقت حصل على رخصة المهندس الاستشاري، ترك عائلته أربع سنوات بالتمام والكمال؛ وبعد عودته صنع بصمةً جديدة عبر وضع النواة الأولى لتأسيس قسم الهندسة الميكانيكية في الجامعة الإسلامية.

ونجح الدكتور أبو هيبة خلال السنوات الماضية في نشر سبعة أبحاث علمية محكمة وتجهيز ثلاثة أبحاث أخرى وكذلك نشر عام 2009 كتابه الأول باللغة الإنجليزية، بينما يستعد خلال العام القادم لإطلاق كتابه الثاني باللغة العربية حول "علم الاستاتيكا".

هدر الطاقات

ويعبر ضيفنا عن تذمره من ضعف استقطاب القدرات الفلسطينية المغتربة قائلاً: "برأيّي حالت الأوضاع الاقتصادية من توفير المميزات المالية التي قد تشجع المغترب على العودة، إلا أن الاستقطاب المعنوي لا يحتاج إلى تكاليف مالية بقدر الحاجة إلى إرادات عازمة على التغيير".

ويتابع أجوبته التي اتسمت بحكمة العقلاء: "من المؤسف أن تهدر الطاقات والأموال من أجل جلب المعدات؛ أو أن تجرى الأبحاث العلمية بهدف الحصول على تمويل مالي لدعم أنشطة الجامعة وليس لتطوير محتوى الأبحاث".

ويتساءل متعجبا "هل من المعقول أن يُخصص لحامل درجة الدكتوراة ساعات للمراقبة على الطلبة في الامتحان، عوضاً عن تسخير تلك العقول في إنتاج أبحاث علمية ريادية وتوفير طواقم مساعدة لذلك الباحث!".

ومن الواقع المؤسف ينتقل الدكتور للحديث عن تجربته مع الطلبة، إذ يؤكد أن شباب غزة يمتلكون قدرات فذة تنافس على مستويات عالمية إن تحرروا من الانهزامية الداخلية وتعززت ثقتهم بأنفسهم، متسائلاً أيضاً: "لماذا عندما يخرج الفلسطيني من بيئته يبدع ويتميز.. الجواب لديكم!.

هل نجحوا؟

"الضغط الإيجابي المقرون بالثقة يولد الإنجازات"، يؤيد أبو هيبة تلك المقولة مستشهداً بمواقف متعددة كان منها أنه ذات مرة قرر تنظيم امتحان نهائي "مفتوح الوقت" إذ يحدد الأستاذ ساعة البدء فقط، ويتيح للطالب حرية التنقل واستخدام المصادر المتعددة كالإنترنت والهاتف النقال.

وفي التفاصيل يتحدث: "أوضحت للطلبة أنهم مطالبون بتصميم نظام تعقب آلي للشمس، ولكن سرعان ما اعترضوا على نظام الامتحان وهددوا بالانسحاب من القاعة وتقديم الشكاوى، فلم اعترض على موقفهم؛ بل تركت لهم حرية الاختيار إما الاستمرار في تقديم الامتحان النهائي أو الانسحاب منه".

مضت الساعات الثلاثة الأولى دون أن ينسحب أحد أو يبادر بالحل، ومع بدء دوران الدورة الرابعة انطلق الجميع في تجهيز النظام في غضون تسع ساعات فقط، رغم أنه يحتاج عادة لقرابة الشهر، وكذلك تمكن كل الطلبة البالغ عددهم 20 من تجاوز الامتحان بنجاح.

ذلك التحدي وما سبقه دفع به إلى التأكيد مجدداً على أن الطلبة قادرون على الإبداع وتحقيق أحلامهم إن أزيلت العقبات من أمامهم، مشيراً إلى أنه يعتمد عادة نظام العلامات الإضافية مقابل إنتاج مشاريع مقترحة وقد تصل نسبة الزيادة 100%!.

أما حلم افتتاح شركة خاصة فبقي يراود المهندس الخمسيني منذ فشلت المحاولة الأولى عام 1997 والثانية عام 2013؛ إلى أن تمكن قبل نحو عامين من افتتاح شركة "أكنان تك" التي تقدم خدمات تقنية متكاملة مهتمة بمجالات الطاقة المتجددة على المستوى المحلي والإقليمي.

لا جوائز للمستسلمين

"أحب الجنون والمجانين" بهذه الكلمات الثلاث أراد أبو هيبة أن يسدي للقارئ الطموح نصيحة بابتسامة عريضة ظهرت على محياه، وهو يوضح "لا جائزة للمستسلمين .. فواصل حلمك بقوة متجددة واجتهاد متواصل، وكل ما يلزمك في ذلك عقل يبدع وإرادة لا تنكسر؛ وبعض الجنون أحياناً".

"ولكن كيف تشجعت على خوض تجربة صناعة أول قلب صناعي في غزة؟"، أجاب: "توجست بداية من الفكرة، كونها جديدة والظروف المحيطة ربما ستعيق تنفيذها، ولكن بعد دراستها بعمق وجدت أنها ليس بالفكرة المستحيلة بل قابلة للتنفيذ وعلى هذا الأساس قبلت بعرض الدكتور محمد نصار".

وبشيء من نبرة التحدي، يضيف "واجهتنا صعوبات في توفير الأدوات والأجهزة اللازمة للمشروع والمواد الشفافة التي لا تتفاعل سلبيا مع الدم، إلى جانب الاعتماد الكامل على التمويل المالي الذاتي في تنفيذ مراحل المشروع على مدار سبعة أشهر".

وبالفعل نجح المهندس الميكانيكي أبو هيبة والدكتور نصار في تنفيذ تجربة ناجحة للقلب الاصطناعي المكون من البلاستيك والصمامات والمضخات المطابقة للمواصفات العالمية، بعد زراعة القلب في جسد خروف لمدة 6 ساعات متواصلة.

ويعمل أبو هيبة برفقة زميله نصار على إجراءات التعديلات النهائية على أنموذجهما الأولي، والذي بلغت تكلفة تصنيعه المباشرة قرابة 2000 دولار، في حين تبلغ تكلفة القلب الاصطناعي الواحد خارج قطاع غزة نحو 400 ألف دولار.

ويختم الدكتور محمد أبو هيبة حديثه بإعادة التأكيد على رسالته الأولى أنه "لا شيء مستحيل أمام الإنسان، إن أمتلك الثقة بنفسه وتحرر من الانهزام الداخلي مهما كانت الظروف صعبة ومعقدة".