بعد قيام الكيان الصهيوني، بدت النظرة الأولى إلى الخريطة الحزبية، وخصوصًا أحزاب المتدينين في “إسرائيل” تُظهر هؤلاء جمهورًا واحدًا لا تمايز بين عناصره، لكنَّ نظرةً أعمق تُبيِّن وجود انقسامات قد يتعذَّر حصرها، تصل إلى حدِّ التكفير الديني. وقد تركَّزت الكتل الحزبية من عام 1948 وفق التالي، في مسارات وانشقاقات من دورة انتخابية لدورة تالية، لكن يُمكن تلمس تلك الخريطة الحزبية في واقعها الراهن: قوى ليبرالية، كحزب العمل (الماباي) وهو عضو في الاشتراكية الدولية، الذي بقي مُستفردًا بسلطة القرار وبأغلبية عضوية الكنيست حتى عام 1978، فضلًا عن مجموعات حزب ميرتس (راتس + شينوي + المبام).
قوى اليمين الفاشي المتطرف بقيادة حزب حيروت، (حزب الليكود لاحقًا) الذي ائتلف دومًا مع أحزاب اليمين بشقيه اليمين التوراتي (يهودي تهتوراه، المفدال، شاس، حزب يمينا..). وأحزاب قوى اليمين العقائدي. ويقع في هذا المضمار الحزب اليميني العلماني (إسرائيل بالهجرة) الذي بات اسمه (إسرائيل بيتنا) بقيادة اليهودي المولدافي أفيجدور ليبرمان. وهو الحزب الذي يُمثّل يهود روسيا والدول الاشتراكية السابقة، وله إذاعة وصحف ومنابر خاصة باللغة الروسية.
ويُمكن رصد اتجاهين دينيين أساسيين في الموقف من الصهيونية والدولة “الإسرائيلية” (تتفرَّع منهما مذاهب وتيارات): الأرثوذوكسية اليهودية المتزمِّتة التي تُعرف بـ”الحريديم”، وهي المعادية أو الرافضة للصهيونية، والاتجاه القومي الديني المتوافق مع الصهيونية، المعروف أيضًا بالصهيونية الدينية (داتي).
ويُعدُّ “الحريديم” أقلَّ انفتاحًا على التغيير، وهم يفضِّلون العيش في مجتمعات مُغلقة، في حين يرفع المتدينون القوميون راية الاندماج في المجتمع “الإسرائيلي”، ومع الآخر اليهودي المُختلف كحال حزب ليبرمان.
الأحزاب المختلطة (عرب ويهود) المحسوبة على خط “اليسار الصهيوني” كحزب ميرتس ونسبيًّا بعض أجنحة حزب العمل الذي بات اليوم يضمحل تدريجيًّا في حضوره، فضلًا عن الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، وهو حزب غالبيته الساحقة من العرب، وبالأساس كان اسمه قبل النكبة: الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهو أقدم حزب شيوعي عربي في المنطقة إذا تأسس عام 1919.
الأحزاب العربية الخالصة، التي انتزعت قرار تشكيلها بعد عام 1966، وتعاظم هذا الحضور بعد عام 1993، ومنها الحزب العربي الديمقراطي، وحزب التجمع، وحركة كفاح، وأبناء البلد، والحركة الإسلامية التي انشقت إلى الشمالية والجنوبية…إلخ.
إن ملاحظة هذه التطورات ورؤية التناقضات والتعارضات في بنية المجتمع “الإسرائيلي” اليهودي الحزبية على أرض فلسطين التاريخية، والجذور التي يعود إليها اليهود بقوميَّاتهم المختلفة، (الجذور القومية، والإثنية، والطبقية، والأيديولوجية، والسياسية، والثقافية…إلخ)، وفي صراعات وتناحر الأحزاب، عامل مُهمٌّ ومؤثر في الأداء الفلسطيني والعربي لأعمال العقل حول ما يجري داخل “إسرائيل”، وفي سياق مواجهة السياسة التوسعية “الإسرائيلية” الصهيونية، وأيديولوجية “إسرائيل” العنصرية الصهيونية التي تعد نفسها دولة اليهود فقط وليست دولة كل مواطنيها.
إن من الوقائع المهمة التي أكدتها وأفصحت عنها التطورات الداخلية في الحياة الحزبية “الإسرائيلية”، بروز ظاهرة اتساع وتعدد المنابر والتيارات داخل الأحزاب المختلفة بما في ذلك حزب الليكود الذي يمثِّل الصف العريض للقوى اليمينية في الوسط الاستعماري اليهودي على أرض فلسطين، فضلًا عن أحزاب: شاس، ويهودي هتوراه، وإسرائيل بيتنا… واتساع تيار الوسط الليبرالي داخل حزب العمل وهو تيار أوروبي (يهودي غربي اشكنازي) يحمل تاريخًا عريقًا في السياسة البراغماتية وحضورًا وتأثيرًا في مختلف الأوساط الدولية، خصوصًا وأنه ينتمي لأسرة أحزاب الاشتراكية الدولية، بينما يُعبِّر التيار الثاني في حزب العمل عن اتجاهات التجنح نحو التقاطع مع سياسات اليمين والمشاركة العملية بها على يد مجموعة اليهود السفارديم المتطرفة، وهناك اتجاه آخر متواضع الحضور. فالحزب التاريخي المؤسس للدولة العبرية الصهيونية على أرض فلسطين العربية، تحوَّل إلى حزب فاقد للوزن والحضور في المجتمع والسياسة “الإسرائيلية”. بينما يضيق نسبيًّا هامش التنوع والتباين في صفوف مجموعات حزب الليكود، ونلحظ انزياح وتجنح للأغلبية نحو “اليمين القومي الفاشي الصهيوني” وطغيان اتجاه التقارب مع أحزاب اليمين الحريدي التوراتي والصراع بين اتجاهات صقرية واتجاهات أكثر صقرية على يمينها، حيث لم يكن مفاجئًا لأغلبية المتابعين للشأن “الإسرائيلي” التفوق في الحضور الانتخابي لعتاة الليكود في الانتخابات التشريعية الأخيرة (2018 ــــ 2020) التي أعيد إجراؤها أربع مرات، وهم أصحاب التاريخ المليء بالدم والنار وأعمدة الدخان.