هناك مسألة في غاية الأهمية والخطورة، ولكنها قضية مغمورة ولا نقرأ أي إضاءات عليها، هي القضية المقامة من دولة فلسطين ضد الولايات المتحدة الأمريكية، في إثر اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتاريخ 6/12/2017 بالقدس عاصمة لدولة المستوطنين، وقراره نقل السفارة الأمريكية إليها اعتباراً من 14/5/2018، فشل مجلس الأمن الدولي في تأييد قراراته السابقة بإدانة أية تغييرات ديموغرافية أو قانونية في وضع القدس، بسبب الفيتو الأمريكي، علماً أن جميع أعضاء المجلس الآخرين وافقوا على مشروع القرار، الذي كان مقصوداً للرد على قرار الرئيس ترامب. والتقطت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع القرار وأيدته بتصويت كاسح، ما أفقد القرار الأمريكي مشروعيته.
وفي خطوة حكيمة ـ على غير العادة – قام مسؤولون في دولة فلسطين بتاريخ 14/5/2018، وهو يوم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بإرسال إشعار إلى الحكومة الأمريكية يخطرونها فيه أن نقل السفارة إلى القدس هو إخلال بأحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، التي انضمت إليها الولايات المتحدة عام 1972، وانضمت إليها فلسطين عام 2014.
لم تجاوب الحكومة الأمريكية على الإشعار الفلسطيني، ما اضطر فلسطين إلى تحريك دعوى ضد الحكومة الأمريكية أمام محكمة العدل الدولية. لا جدال في أن الخطوة كانت خطوة حكيمة وجريئة وذكية، وهي دعوى تقوم على أساس من القانون الدولي متين.
وباختصار شديد، تقوم الدعوى الفلسطينية على أساس اتفاقية فيينا المذكورة، ولاسيما المادة 3/1 التي تنص على أن مهام البعثة الدبلوماسية هو تمثيل الدولة المرسلة لدى الدولة المستقبلة، وهذا يقتضي بالضرورة أن يكون مقر البعثة «في أراضي الدولة المستقبلة»، وهذا التعبير «في أراضي الدولة المستقبلة» ورد في اثني عشر موقعاً من اتفاقية فيينا المذكورة، ما يقطع بأن إقامة البعثة الدبلوماسية لا يمكن أن يكون إلاّ على أراضي الدولة المستقبلة.
كما تنص المادة 21/1 أن على الدولة المستقبلة أن تسهل تملّك مقر بعثة «في أراضيها» للدولة المرسلة أو مساعدتها في الحصول على مقرّ لها «داخل أراضيها».
والسؤال الذي طرحته الدعوى الفلسطينية على المحكمة الدولية للإجابة عليه هو: هل إقامة السفارة الأمريكية في القدس هي إقامة على أراضٍ إسرائيلية؟ وبات من المعروف أن الفتوى القانونية الصادرة عام 2004 عن المحكمة الدولية في قضية جدار الفصل العنصري أقرّت بأن «الأراضي الفلسطينية المحتلة» تشمل «الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة». ولا يمكن للمحكمة أن تخالف ما سبق وأن أقرّته، أي أن السفارة الأمريكية نقلت إلى «أراضٍ محتلة» ولا تتبع للدولة المستقبلة ـ إسرائيل.
وإذا توصلت المحكمة الدولية إلى قرار بأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس فيه خرق لالتزام دولي، فإن على الحكومة الأمريكية أن تصوّب الوضع وتسحب سفارتها من الأراضي المحتلة، باعتبار أنها ليست أراضي إسرائيلية.
نلحظ أن هذه الدعوى تنطوي ـ في حال نجاحها ـ على نتائج في غاية الأهمية، أولها أن القرار الأمريكي بنقل السفارة قرار باطل ويجب إلغاؤه وسحب السفارة من القدس، وثانيها أن الإعلان الإسرائيلي بأن القدس هي عاصمتها، هو إعلان باطل قانوناً وكانت الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي قد أصدرا العديد من القرارات تعلن بطلان القرار الإسرائيلي، وثالثها إعادة التأكيد أن القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يجوز تغيير الوضع القانوني لأراضٍ محتلة. وفي ذلك دعم قضائي للموقف الفلسطيني على نحوٍ غير مسبوق.
إلا أننا فوجئنا بأن دولة فلسطين طلبت في رسالة مؤرخة في 12/4/2021، وموجهه إلى رئيس قلم المحكمة الدولية تأجيل المرافعة الشفوية التي كان من المقرر إجراؤها في 1/6/2021، من أجل إتاحة الفرصة للطرفين لإيجاد حل للنزاع، من خلال المفاوضات، وقد ورد إلى رئيس قلم المحكمة أن الحكومة الأمريكية «لا تعترض على طلب المدعي (فلسطين)»، ولذلك قررت المحكمة بناء على طلب الفريقين تأجيل جلسات الاستماع إلى إشعار آخر.
وبعد مرور عام على الطلب الفلسطيني لم نسمع أن الطرفين وجدا طريقهما لحل النزاع، كما أنه لم يتم تحريك الدعوى من جديد حتى الآن بانتظار «الفرج» من لدن السيد جو بايدن! وهو، إن جاء، سيكون أقلّ قيمة من الإنجازات المتوقعة في ما لو صدر القرار لصالح فلسطين.
من الواضح أن القيادة الفلسطينية تنتظر للمساومة، ذلك أن مبدأ المساومة ما زال يسيطر على تفكيرها، وفي مواجهة أخطار جسيمة تهددنا كشعب وقضية، تلجأ القيادة إلى «مساومات» باهتة.
وربما كانت القيادة تساوم على حمل الإدارة الأمريكية على إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإن كان هذا صحيحاً، فإنه ثمن زهيد في مواجهة الاحتمالات الإيجابية التي يمكن أن تنشأ عن قرار من المحكمة الدولية، وهو على أي حال، إن وقع، تصرف يعيد الحال إلى ما كانت عليه، أي ليست هناك أفضال أمريكية للمقايضة عليها، وربما تتم المساومة على مقابل من المساعدات المالية التي سوف تذهب إلى جيوب طبقة الفساد التي تسيطر على مقاليد القرار الأمني الفلسطيني. وهكذا نلحظ أنه في مواجهة هذه الأخطار الجسيمة التي تحيق بشعبنا وبالأرض المحتلّة، تلجأ القيادة إلى إجراءات باهتة لا قيمة لها.
ولا بد من إضافة حالة المشهد الفلسطيني العام داخل الأراضي المحتلة، ولاسيما داخل القدس وحولها، الذي يثير قلقاً عميقاً، ذلك أن المستوطنين، الذين أصبحوا يشكلون دولة فاشية داخل دولة الاحتلال الفاشية، وأصبحوا يتصرفون كعصابات منفلتة من القيود، يستبيحون المقدسات الإسلامية والمسيحية والدم الفلسطيني استباحة مطلقة، إذ نشاهد يومياً جنازات الشهداء والشهيدات بلا توقف، وغالباً ما يكون الضحايا من الشباب والأطفال والنساء، ما ينبئ بأن استهدافهم كان مقصوداً، سواء كانوا مشاركين في المقاومة أو مجرد مارّة عابري سبيل.
وبالمقابل، فإن السلطة الفلسطينية، التي تمّ اختصارها إلى بضعة أشخاص غير منتخبين، ولا يُسألون عما يفعلون، يمارسون أعمال الشجب والاستنكار وكأنهم أعضاء في حركة التضامن الكوبية مع الشعب الفلسطيني. ونسمع بتكرار ممل أقوالاً تصدر عن الأخ محمد اشتية من أنه يُحمل المجتمع الدولي مسؤولية جرائم إسرائيل، ولم نلحظ اي تجاوب من المجتمع الدولي لنداء الدكتور اشتية.
وقد صرت أشفق على الاخ محمد اشتية من الحرج لو قام أحد رجال السياسة في المجتمع الدولي وخاطب الدكتور اشتية قائلاً: أنت تحملنا المسؤولية، ولكن كيف نتحمل المسؤولية وأنتم في السلطة الفلسطينية تقدمون خدمات «التنسيق الأمني»، أي تقومون بأعمال التجسس على شعبكم، ثم تطلبون منا أن نتحمل المسؤولية؟ وحيث أنه ورد في تقارير صحافية ذات مصداقية أن القيادة الفلسطينية سوف تتخذ إجراءً ضد إسرائيل، لكي تعبر عن امتعاضها من سلوك الحكومة الإسرائيلية، أو لامتصاص النقمة الفلسطينية، والإجراء المتوقع هو سحب اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود. وإذا صحت التقارير، فإن هذا الإجراء إجراء هزيل، ذلك أن الاعتراف في القانون الدولي لا يمكن سحبه أو جعله مشروطاً. وهو إجراء لا يضير إسرائيل لأن الاعتراف، أو عدمه لن يغيّر من سلوكها الوحشي شيئاً، وهي تدرك أنها قائمة بالقوة، وليس بالاعتراف، وبالتالي فإن سحب الاعتراف هو إجراء لا قيمة له.
إن الشعب الفلسطيني مدعو الآن لإعادة انتخاب قيادة وطنية فلسطينية جديدة، بعد أن يتم انتخاب مجلس وطني يضم عناصر الشعب الفلسطيني كافة في الداخل والخارج. إن القيادة الحالية لا تتمتع بالشرعية الدستورية ولا تتمتع بالشرعية الثورية، إنها قيادة في وضع مغتصب للسلطة!