ما زلنا نسمع من طائفة من الخصوم والأصدقاء اجتهادات أو انتقادات لفعل أولئك المجاهدين الثلاثة الذين قاتلوا وقتلوا في ساحات المسجد الأقصى، وحمّلهم أولئك نتيجة عملهم إغلاقَ جيشِ الاحتلال أبوابَ المسجد الأقصى "المفتوح" للصلاة، ومنعه الصلاة والأذان أيامًا، ثم فرضه البوابات الإلكترونية على الناس، فأحببتُ بيان ما أراه في جانب تأسيس التوصيف الشرعي والسياسي والواقعي للأمر، وهو ما ينبغي أن يكون عليه المفتي أو المنظِّر أو صاحب الرأي قبل إطلاق الأحكام وتعميمها، واسمحوا لي أن أستخدم هنا لغة فقهية ممزوجة ببعض السياسة:
- نقرر أولًا أن الحكم لا يدور مع كراهة الناس للنتائج المتوقعة، فأغلب الجهاد ينتهي بالأسر أو الإصابة أو الاستشهاد أو الضيق الماديّ والأمني، وإن تحقق النصر جزئيًّا أو كليًّا (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)، فترك القتال والقعودُ عنه على ما فيه من خير مؤقت هو الأكثر ضررًا وشرًّا ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
- إن قضية المسجد الأقصى الكبرى ليست في فتحه للصلاة أو إتاحة الزيارة إليه، إنما هي في تمكين المسلمين من الصلاة فيه دائمًا، وهذا لا يتأتّى بـ"سيادة" سلطة محتلة كافرة تسعى في العلن إلى هدمه وتخريبه، وإقامة بنيان ديني باطل فيه، وطرد المسلمين من جواره وأكنافه.
- بل إن واجب الوقت هو تحريره والجهاد من أجل تمكين المسلمين من السيادة عليه، وإن أدى ذلك إلى تعطيل الصلاة فيه حينًا؛ فهذا مما يُعفَى عنه في القضايا الكبرى بحسابات المصالح المعتبرة.
- وإذا جاز لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقاتل في المسجد الحرام، وهو أعظم حرمة وأجلّ مقامًا من المسجد الأقصى لمصالح سياسية شرعية معتبرة؛ فإن هذا جائز في حق المسجد الأقصى وهو تحت احتلال فاجرٍ قاتل صادٍّ عن الدين والعبادة في حقيقة مساعيه وأهداف سياسته، إن هذا لا يقل فتنةً عمّا أصاب المسجد الحرام من قبل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).
- ومع استعظامنا القتال في المساجد إن ذلك أهون من البقاء تحت سلطة عسكرية غاصبة ظالمة لا تتورع عن ابتداع أساليب الصد عن المسجد الأقصى وطرد المقدسيين عن السكنى حوله، وهذا محل قوله (تعالى): (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وإنما وقع الأمر بقتالهم وقتلهم إذا وقع منهم الاعتداء والظلم وقتال أهل الإيمان، وهذا ما هو حاصلٌ كائن من هذا المحتل الصهيوني الظالم المجرم.
- ثم إن القتال ممنوعٌ في المساجد ما لم يعتد على المسلمين فيه، ولما كان المسجد الأقصى قد ارتقى فيه مئات الشهداء المدافعين عنه عبر تاريخ من المقاومة طويل؛ فهذا يجعل مقاتلتهم فيه مشروعة في أصل المسألة والاستدلال عليها (ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ).
- ومن مواضع الاستدلال على جواز ذلك أنْ جعل القرآنُ الدفاعَ عن المساجد وحمايتها مطلبًا من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ولم أجِدْ تفسيرًا كامل الأركان بلا التواء وتكلُّفٍ، ولم أجد تنزيلًا لهذه الآية في واقعٍ أشبهَ مما جرى في باحات المسجد الأقصى في صَولة الجمعة المباركة، والأعجب أن سياق هذه الآية في موضعها من سورة البقرة كانت في حق اليهود أيضًا، فهذا الظلم الأكبر الواقع منهم بالاعتداء على حقوق الآخرين في عبادتهم وحريتهم وأرضهم، بالتصرف في المسجد الأقصى بما لا يرضى أهلُه به بأنواع المنع من إغلاق وتقييد وإجراءات معقدة تتصل كلها بالسعي الحثيث إلى خراب هذا المسجد العظيم المبارك المعلوم، فلا يستطيع أحدٌ من أهله الصلاة فيه أو دخوله إلا باعتبارات كثيرة تجعل أكثر الناس على خوفٍ من الوصول إليه وعمارته، فهؤلاء المانعون المحتلون الظالمون لهم الخزي المستَحقّ في الحياة الدنيا، وفي الآخرة لهم عذاب عظيم، والخزي خوفٌ ومقتلة وهوانٌ ومذلة، إن قُدِر عليهم في الدنيا.
- ثم إن المسجد الأقصى قد اتخذه المحتلون قاعدة لقتل المسلمين المصلين والمرابطين فيه والعاكفين، واعتادوا ذلك منذ عقود خلت، فكان من الواجب على كل قادر أن يعمل على خروجهم منه بكل وسيلة متاحة، إلا إن كان ضررها أكبر على المديين المتوسط والبعيد، فإن كان ضررها قريبًا تكتيكيًّا ويغلب على تقدير المصلحة أنه ضرر إجرائي يمكن كسره بفعلٍ سياسيّ نشط أو دبلوماسية دولية وإقليمية فاعلة؛ فهنا يصبح قتال المعتدين أوجب وأظهر.
- إن ما فعله الشبان الثلاثة إنما أظهر حقيقة الاحتلال، وبيّن سلوكه الدائم المتخفّي باستطالة الأوقات التي يرتكب فيها جرائمه حتى ينساها الناس، فالمسجد الأقصى يغلق دومًا ويمنع الناس من الصلاة، ويطرد المقدسيون من حوله، ويمنع ترميمه.
- المسجد الأقصى لا يحظى بأية حقوق سياسية ودينية في القانون الإسرائيلي القائم على سلطة الاحتلال والظلم، بل هو عندهم مرفق سياحي مؤقت، ومزار ديني اقتصادي، يؤدي بقاؤه على حاله الراهنة دورًا تنفيسيًّا ريثما يتحقق لهم زمان سياسي مناسب بات قريبًا جدًّا في حساباتهم، وقد أحسنت عملية الشبان الثلاثة في تسريع كشف المشروع الصهيوني الحقيقي، القائم مرحليًّا على التقسيم الزماني والمكاني، كما فعل الصهاينة في مسجد إبراهيم الخليل من قبل، وصولًا إلى تصفية الوجود المعماري للمسجد الأقصى، وإقامة معمار هيكل مشروعهم الديني القومي.
- ثم إن العملية لم تستهدف "مدنيين" بل جنودًا عسكريين تقوم وظيفتهم على قتل الفلسطينيين وتمكين الظلم والاحتلال، وليس حراسة المصلين العابدين أو رعاية مصالحهم.
- ولما كنا على يقين بأن الصهاينة يرمون إلى هدم المسجد الأقصى حقًّا، وهم لا ينكرون ذلك أبدًا؛ فقد وجب قتالهم لردعهم عن فعل ذلك، وإن بتعبئة الناس وتحريضهم وإثارة العالم عليهم، ليتفرغ الناس لعبادة ربهم دون خوف في معابدهم ومساجدهم (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).
- ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقر باللعب بالحراب وأدوات الحرب في المسجد، حتى إن البخاري جعل ذلك الحديث تحت باب: "أصحاب الحراب في المساجد"، ما يدل على جواز استخدام السلاح في المساجد لمصلحة معتبرة يقدّرها أهل الميدان، وهم أرباب المقاومة وقادتها في بيت المقدس وفلسطين، ولذلك قالت العلماء: "إن اللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب، فهو جائز في المسجد وغيره".
هذا ما سمح به الخاطر، والله الموفق للصواب الهادي إلى سواء السبيل.