هل توجد لدى الفلسطينيين والعرب قدرة على هزيمة كيان الاحتلال الصهيوني؟ هذا السؤال لطالما تردد على مدار سنوات وعقود مضت، ومثار طرحه أن الانتصار على الاحتلال يتطلب وحدة الموقف السياسي، وتوافر القوة العسكرية والأمنية، وامتلاك الموارد البشرية المدربة التي تستطيع الانتصار على كيان الاحتلال في أي مواجهة عسكرية مفتوحة، وترجمة هذا الانتصار العسكري إلى مكاسب سياسية تُتَوَّج بانكفاء وتقهقر الاحتلال الصهيوني وإقامة دولة فلسطينية فوق الأرض الفلسطينية المحررة.
قبل الإجابة عن هذا التساؤل ينبغي استحضار نقطتين على درجة عالية من الأهمية، أولاهما أن الاحتلال العسكري يكون عادة من دولة تمتلك من القوة والعدد والعتاد ما يفوق قدرة الشعب تحت الاحتلال على مواجهته، وهذه الدولة ترى في احتلال شعب آخر يحقق مصالحها الآنية والمستقبلية من خلال الهيمنة المسلحة على أرض وموارد طبيعية لا يحق لها امتلاكها، وهذه نقطة متوفرة لدى كيان الاحتلال الصهيوني، فهو كيان يتلقى دعمًا اقتصاديًا وعسكريًّا متواصلًا على مدار عقود من أقوى دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، ويمتلك جيشًا يحتل المرتبة الرابعة من حيث القوة في منطقة الشرق الأوسط والثامنة عشرة على مستوى العالم بحسب تقرير موقع "غلوبال فاير بور" المتخصص في الشؤون العسكرية حول الجيوش الأكثر قوة في العالم لعام 2022، بمعنى آخر أن الاحتلال الصهيوني هو كيان مرتبط بدول عظمى، ويحقق بقاؤه مصالح تلك الدول التي لا طاقة للشعب الفلسطيني على مواجهتها في ظل الواقع العربي المؤلم وحالة التشرذم التي تعيشها الأمة العربية بعد انكفاء ثورات الربيع العربي.
النقطة الثانية والأكثر أهمية هو أن الواقع متقلب، والأيام دول، فجميع الشعوب التي عانت تحت الاحتلال انتزعت حريتها واستقلالها رغمًا عن الاحتلال، وفي سبيل ذلك قدمت الملايين من الضحايا في سبيل نيل حريتها، ففي حرب تحرير فيتنام خسر الفيتناميون أكثر من مليوني قتيل وثلاثة ملايين جريح، وفي حرب تحرير الجزائر ارتقى أكثر من مليون ونصف المليون شهيد معظمهم من المدنيين، والأمثلة تطول وجميعها تؤكد أن ثبات وصمود الشعوب ومقاومتها للاحتلال هو السبيل الوحيد لطرد الاحتلال، فلا طاقة لأي احتلال عسكري بدفع كلفة استمرار هذا الاحتلال، فتعاظم أعداد الجنود القتلى نتيجة المقاومة وتصدّع اقتصاده الداخلي يجعل المحتل غير قادر على دفع فاتورة استمرار آلة القتل إلى ما لا نهاية، وهنا نستحضر أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعد خسارتها ثمانية وخمسين ألف جندي أمريكي على يد المقاومة الفيتنامية، أُرغِمت على إنهاء احتلالها لفيتنام.
واليوم ونحن نتحدث عن تضحيات الشعب الفلسطيني التي جاوزت مائة ألف شهيد، ومليون حالة اعتقال، وتشريد أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني بحسب تقارير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ورغم ذلك ما زال الشعب الفلسطيني يصر على مطالبه بالحرية والاستقلال، ويتمسك بعروبة القدس، ويقاوم الاحتلال الصهيوني في كل ميادين المواجهة، بدءًا من التمسك بالهوية العربية والإسلامية، والرباط في المسجد الأقصى ورفع العلم الفلسطيني في شوارع القدس، ومرورًا بالاعتصامات والمظاهرات الجماهيرية في الضفة والداخل المحتل، وتنفيذ عمليات فدائية مسلحة في عمق الأراضي المحتلة، وليس انتهاءً بإطلاق رشقات صاروخية من غزة على المغتصبات والمواقع العسكرية الصهيونية، بما يؤكد أن الشعب الفلسطيني عازم على هزيمة الاحتلال رغم تعدد جولات المواجهة وطول فترة الصراع مع الاحتلال.
وفي المقابل نجد أن تكلفة استمرار الاحتلال الصهيوني باتت باهظة على المحتلين، فمجرد تنفيذ مسيرة لرفع الأعلام الصهيونية وسط مدينة القدس تطلب من الاحتلال إعلان أعلى درجات الاستنفار، وتجنيد آلاف الجنود لحراسة المسيرة، وإطلاق مئات الطائرات في سماء فلسطين خوفًا من هجمات فلسطينية محتملة، وهي إشارات تغذي العقل الباطن للمحتل بأنه ورغم مرور سبعة عقود على إقامة كيان الاحتلال ما زال الأمن الشخصي لليهود المحتلين مفقودًا داخل مدينة القدس، وأن تنظيم مظاهرة لرفع العلم الصهيوني يتطلب استعدادات أمنية، وحراسة عسكرية مشددة وهي دلالات يتّسم بها السارق المجرم الذي يسكن خائفًا في منزل سلبه من ملّاكه بقوة السلاح، بينما ملاك المنزل يقفون على الأبواب.
ربما ما يميز الاحتلال الصهيوني أنه خليط من أقوام شتى، جاؤوا من شتات الأرض، كثير منهم يحملون جنسيات غربية مزدوجة، ولإيجاد رابط بينهم فإنهم وفي كل يوم يذكّرون أنفسهم أنه يهود، لدرجة أنهم شرعوا سنة 2018 قانونًا عنصريًّا أسموه (قانون القومية اليهودية) وطالبوا العالم بالاعتراف بدولتهم اليهودية الخالصة، في عقدة نقص أضحت من السمات الظاهرة لكيان الاحتلال، وهو كيان قائم على الخوف، حيث تهيمن فيه أجهزة الأمن على القرار السياسي، عوضًا عن كونه احتلالا عسكريا يعيش في محيط لا ينتمي إليه ثقافيًّا أو دينيًّا، ما يدفعه إلى العيش داخل أسوار من الخوف والشكّ والحواجز العسكرية والجدر الإسمنتية.
كيان الاحتلال يفتقد للعمق الجغرافي، ما يدفعه للحرص على اتباع استراتيجية نقل المعركة إلى أرض العدو، وهي استراتيجية نجحت المقاومة الفلسطينية في كسرها مرارًا خلال جولات المواجهة مع الاحتلال في السنوات الأخيرة، ما جعل مدن الاحتلال ومواقعه العسكرية الاستراتيجية ساحة مكشوفة لصواريخ المقاومة الفلسطينية، وهي عناصر قوة للمقاومة تنخر شيئًا فشيئًا في كيان الاحتلال.
وبالنظر إلى القوة الاقتصادية والعسكرية للاحتلال نجد أنها قوة خارجية، فهو يعتمد في استمرار بقائه على دعم الدول الغربية، بدءًا من المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية، التي تُقَدَّر بثلاثة مليارات سنويًّا، والدعم الدبلوماسي في مجلس الأمن والمؤسسات الدولية، وتسخير الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة والعالم لخدمة أهداف الاحتلال، إضافة إلى الدعم الأوروبي المتواصل، وفي مقدمتها التعويضات الألمانية التي وصلت حتى منتصف 1996 إلى 60 مليار دولار، ومتوقع أن تصل عام 2030 إلى 80 مليار دولار، بحسب دراسة موثقة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية قبل سنوات، والمساعدات الفرنسية التي وصلت إلى ذروتها ببناء فرنسا لمفاعل ديمونا النووي لصالح الاحتلال، إضافة إلى الدور البريطاني الذي يعتبر دعم كيان الاحتلال أحد الثوابت في السياسة البريطانية.
حرص الاحتلال على التفوق العلمي والتقني في المنطقة، حيث أسس اليهود معهدهم التقني "التخنيون" في حيفا سنة 1925، وحاربوا وصول أي تقنيات أو علوم متقدمة للأمة العربية، وفي هذا الإطار نفذوا عمليات اغتيال طالت عشرات العلماء المصريين والعراقيين والفلسطينيين لمجرد أنهم درسوا علومًا متقدمة، أو توصلوا لاختراعات تفيد الأمة العربية، وفي السنوات الأخيرة عقد الاحتلال عدة اتفاقيات أمنية مع بعض الأنظمة العربية بهدف ملاحقة القوافل البرية، أو السفن التي تعبر البحر الأحمر، خوفًا من وصول أي دعم تقني أو عسكري للمقاومة في غزة، ورغم ذلك نجحت المقاومة في كسر استراتيجية الاحتلال من خلال اعتمادها سياسة التصنيع المحلي الذي تُوج بقدرتها على صناعة وتطوير صواريخ فلسطينية ضربت العمق الصهيوني، وتجاوزت منظومة القبة الحديدية التي لطالما تفاخر بها الاحتلال أمام العالم.
واليوم يعاني كيان الاحتلال لعنة العقد الثامن، والخوف من المستقبل المجهول في أرض فلسطين، في ظل فشل مشروع أوسلو الذي وفر الأمن للاحتلال طيلة العقدين الماضيين، وتصدع الأحزاب الصهيونية، وهشاشة الائتلاف الحاكم الذي بات فاقدًا للأكثرية في كنيست الاحتلال، وتوقعات بعدم نجاح أي طرف سياسي في الحسم سياسيًّا حال الذهاب للانتخابات البرلمانية، وعدم وجود زعيم يهودي يلتقي حوله غالبية المحتلين، يبقى هذا الكيان أقرب إلى الانقسام السياسي والأيديولوجي حال حدوث أزمة طارئة في المستقبل القريب.
وعلى الصعيد العسكري والأمني يواجه الكيان بحسب تقارير الإعلام العبري عزوفًا من الشباب الصهيوني نحو الالتحاق بالوحدات العسكرية البرية والمدفعية، وفشلًا في استراتيجية تدجين الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل، أو هزيمة المقاومة في غزة، كما أنه بات يواجه مخاوف انهيار السلطة الفلسطينية في الضفة، وهي عوامل تقضم من قوة وتماسك الاحتلال، في إشارة إلى أن الشعب الفلسطيني رغم مرور سبعة عقود على إقامة كيان الاحتلال ما زال يمتلك من الأدوات والوسائل ما يعينه على هزيمة هذا الكيان مع أي تقلبات سياسية أو أمنية قد تحدث في المنطقة العربية أو في المجتمع الدولي.
ختامًا وبعد استحضار العوامل السابقة سواء تلك التي تعزز من بقاء واستمرار الاحتلال، أو تلك التي تدعم فرضية قدرة الفلسطينيين على هزيمة الاحتلال، فإننا نؤمن بأن صمود الفلسطينيين، وتمسكهم بخيار المقاومة، وحدوث تراجع في الدعم الخارجي لكيان الاحتلال نتيجة أزمات دولية، ووقوع أحداث إقليمية قد تُضعف من قوة الأنظمة العربية المتحالفة مع الاحتلال هي عوامل ستساعد كثيرًا في اقتراب يوم تحرير القدس وفلسطين.