فلسطين أون لاين

انقضت العشر دقائق ولم يعد

تقرير الشهيد "غيث يامين".. طفل رسم مخاوفه بوصية

...
الشهيد "يامين" يودعه والديه
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

في لحظةِ تأملٍ وتفكرٍ رسم مخاوفه بدقةٍ، فكتبَ عن كل شيءٍ يخشاه، وعن الأماكن التي يحبها، يرتب لحياته القادمة، وهو يرى الأطفال يرحلون من حوله، أو بالأحرى باتوا هدفًا متنقلاً لجيش الاحتلال، وتوقع أن يكون هدفهم التالي.

ترك الطفل غيث يامين (16 عامًا) لأهله وللأماكن التي سيفارقها أو سيلجأ إليها كلمات مؤثرة، فهو الذي أراد أن يمضي مسرعًا للقبر دون أن يمكث في ثلاجات الموتى، وأن يرحل مخضبًا ومسجًّى بدمائه ليشكو إلى الله ظالمًا يقتل أطفال فلسطين. قال: "إذا مت فلا تضعوني في ثلاجة الموتى؛ لأنني لا أحب البرد".

الطفل غيث يدرس بالصف العاشر الأساسي، يكره العزلة، وكان يحب أصدقاءه، وتجلت معاني ذلك بقدوم عشرات منهم للمشفى ينتظرون ما يبرد مخاوفهم عليه، فأيضًا أوصى أن يكون بين رفقاء أطفال يجاورون قبره ليجد الدفء والأُنس بينهم: "واختاروا لي مكانا للدفن يوجد فيه أطفال كي لا أبقى لوحدي".

أوصى أن تبقى حساباته على مواقع التواصل مفتوحة حتى لا ينساه أحد، ترك "سوارًا مفضلاً" تحت وسادته وطلب أن تحتفظ عائلته به، وأن يزوروه ويوزعوا نسخًا من القرآن الكريم يكتب اسمه على صفحته الأولى، وخص عائلته في نهاية وصيته: "تعالوا كل يوم زوروني واحكوا معي رح أكون أسمعكم، وما تبكوا لأنه ما بحب أزعل حدا مني أو يبكي بسببي".

الساعة الحادية عشرة صباحًا، الأربعاء الماضي، اقتحم الخوف قلب والده، بمجرد أن تواردت إلى مسامعه أنباء بوجود قوة مقتحمة من جيش الاحتلال ترافق مستوطنين، وهي علامةٌ على مواجهات ستحدث مع الشبان في "مقام يوسف" بنابلس، فاتصل عليه والده يريد منه العودة مباشرة للبيت: "عشر دقائق وبروح"! مهلة حددها للعودة.

ولأن في المنتصف عدوًّا يقف أمام التقاء الأحباب، وبعد مرور الدقائق العشر وكذلك ساعتين إضافيتين، وصل اتصال إلى والده، الشيء الذي كان يخشاه حدث بالفعل، ابنه الآخر ينقل إليه الخبر المنتشر: "غيث أصيب".

اخترقت الرصاصة رأس الطفل الذي أعدم بدم بارد بالرصاص الحي في منطقة "قبر يوسف" بنابلس، وتحولت جمجمته إلى أشلاء بعدما دخلت الرصاصة خلف أذنه وخرجت من الجهة الأخرى، لكن ظل قلبه يتنفس، إلى أن أعلن استشهاده.

على مقعدٍ خشبي جلس زملاؤه، يتوسد كل واحد منهم يده، يراقبون باب المشفى الذي سيخرج منه غيث ينتظرون ما يخبرهم أنه سيكمل العام الدراسي التالي معهم، وسيكونون في نفس الفصل حتى ترتد إليهم فرحتهم، لكن أعلن استشهاده وتغير الانتظار، وأصبح كل واحدٍ منهم ينتظر دوره في إلقاء نظرة الوداع عليه، على الرغم من أنه قبل ساعات كان يمتحن معهم.

تغلب الدموع صوت والده وهو يتساءل: "بأي حق وأي دين يتلقى طفل رصاصة في رأسه؟"، كان يحاول التماسك أمام لحظةِ انهيار: "ماذا فعل ابني وهو لا يزال يقدم امتحانات دراسية ولديه أحلام؟". 

يعلق على وصية نجله: "الطفل منذ ولادته عندنا يجب أن يكتب وصيته، لأنه لا يستطيع أن يحلم بالمستقبل، فهو يعرف نفسه أنه قد يتم قتله".

نشر مدرسه ورقة امتحان باسمه تظهر تفوق غيث بالدراسة، وكان يريد إنهاء دراسته بتفوقٍ، تأثر الطفل بالشهيد "محمد الدخيل" الذي اغتالته قوة إسرائيلية خاصة في حي "المخفية" بمدينة نابلس، في الثامن من فبراير/ شباط الماضي، بعدما دوّخ الاحتلال على مدار سنوات.

والد غيث يدرك أن معادلة الاحتلال تغيرت الآن في وأد أحلام الفتيان، قائلا: "هذه خطة جديدة للاحتلال بعدما كانون يغتالون الشباب، الآن يقتلون الفتيان والأطفال الذين تحدث بينهم وبين المستوطنين وجنود الاحتلال مناوشات ومواجهة عند اقتحام أي منطقة".

"وينه تأخر؟" .. تسأل والدته جموع النسوة، وهي خائرة القوى تسندها المعزيات، وهي تقدم ابنها للوطن تذرف دموع حزنها: "نذرته لرب العالمين، كرمال القدس (...) صلى وخرج من البيت واستشهد"، واصفةً شهادته بأنها "ترفع رأسنا".

تكوي الحسرة قلبها: "لو أجا ودعني، كل الناس بتحبه، حنون على الكل"، قطعت دموعٌ اغرورقت بها عيناها أوصال صوتها، قبل أن تتماسك قليلا، مشيرةً، إلى أن "غيث زار الشهداء قبل أسبوع، وأخبرهم أنه سيلحق بهم بعد أسبوع، وأوفى بوعده".

فاضت دموع شقيقته وتحشرج صوتها، معلنة رضاها عنه: "والله حنون، ما بتأخر في تلبية ما أريد، كنت أشكيله كل همومي (..) في آخر يومين ما شفته، لكن بالعادة بيجي وبنقعد، كان فرحان أنه صار أطول مني".

"وحدة وحدة على الدور".. ينادي أحد المشيعين على جموع النساء، ما إن وصل غيث محمولا على الأكتاف يكفنه علم فلسطين وتلتف الكوفية حول رأسه، وقد وضع المشيعون جثمانه على الأرض.

جثت والدته، ولامست وجهه الساكن بلا حركة، لا تصدق أنه رحل، تلقي نظرة الوداع الأخيرة عليه وتودعه شقيقته والمقربات منه بعدها، وحمل المشيعون جثمان الطفل تعلو صيحاتهم بـ "لا إله إلا الله"، في حين أطلقت النسوة زغاريدهن، وبدأت الجنازة تبتعد شيئًا فشيئًا وأمه تراقب بدموعها من نافذة المنزل.