تذكر لنا آيةُ العنكبوت ترتيبًا عجيبًا في سياق الذين أهلكهم الله من الأمم السابقة بذنوبهم وتكذيبهم، لكن في مشهد فرعون وحاشيته جاء ذكرُه وسطًا بعد قارون وقبل هامان؛ يقول تعالى عن إهلاكه إيّاهم: "وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ.." [العنكبوت: 39]؛ كأنّ الآية تريد أن تقول لنا: إنّ الظالمين والمجرمين الذين يتغلّبون على رؤوس الناس يطيرون بجناحين يبقيانهم على قيد الدوام والاستمرارية؛ وهما جناحا الاقتصاد وإدارة الدولة وسياستها؛ فإذا ما أخذ أربابُ هذين الجناحين مبادرةً وقرارًا من عنديّاتهم هوى الظالمُ، وكُسرت رأسُه، وأُسلم للناس يضربونه بالنعال ويؤاخونه لأبي رِغال.
ويبدأ الذكرُ أولا بقارونَ الذي "كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ"، وكانت ثروتُه تشبهُ أن تكون الكبرى على مستوى التاريخ، ومع ذلك لمّا رأى مصالحه الاقتصادية تتعانق مع خدمة فرعون الذي هو عدوّ قومه نسّق معه اقتصاديًّا، ووطئ آلام قومه، ولم يبالِهم بالةً؛ فهو مع أهله والفقراء كاشح ممسِكٌ مغرور، لا يحفظ إلّا "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي"؛ حتى يواريَ عورة نذالته، ويستر بما يسمّيه منطقًا حقيقةَ لاإنسانيته، وفي المقابل هو مصدر احتياط ماليّ لفرعونَ الذي لو سأله من ماله ما سأل، فلن يتوانى ولن يتردّد، بل إن فرعون الذي كان يستهدف رؤوس الأموال بل أموال بني إسرائيل أغضى الطرف عن الثراء الفاحش لقارون لمّا ضمن أنه لن يعود بالخير على قومه، فهو منهم في خانة هُويّته، لكنه أحدُ نعال فرعون في حقيقته.
أمّا هامان مهندس البناء والسياسة في دولة فرعون؛ فقد كان المصدرَ الأولَ للتقارير التي تصل فرعون للناس، وكان لا يصل أحدٌ للفرعون إلا إذا سمح له، فكأنّه الدولةُ على الحقيقة! ولقد تولّى مشاريع البناء لفرعون ما زاد ثقته به حتى أوصله غروره إلى أن قال: "يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ" [غافر: 36]؛ يريد به أن يطّلع إلى إله موسى عليه السلام! يظنُّه ندًّا له. وكان يمدُّه هامانه بالغيّ دوما لا يُقصِر، لدرجة أنّ الله جعله في كِفّةٍ واحدةٍ مع فرعونَ في درجةٍ عظيمةٍ جدًّا من الخطيئة تعادل خطايا جنودهما؛ انظر لقوله تعالى "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ (على التخصيص والتفظيع) وَجُنُودَهُمَا (على التعميم والتشنيع) كَانُوا خَاطِئِينَ" [القصص: 8]، وقد جاء ذكرُ الجنود على التبعيّة؛ لأنّ غرفة القيادة المركزية (فرعون رأسًا، وقارون للماليّة، وهامان لشؤون الدولة) هي التي كانت تسوقهم من بطونهم وتغسل لهم أدمغتهم لتضمن ولاءهم.
ونعود قليلًا إلى قارونَ الذي بدأ الله بإهلاكه؛ "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" [القصص: 81]، أمّا فرعون وهامان فقد أكلتهما مياه البحر فغرقا، وكأنّ في الآية إشارةً أنّ الاستنزافَ الماليّ إذا زاد حجمه حتى وصل أشدَّه لدى محتلٍّ أو ظالم متجبّر فإنه لن يستطيعَ البقاء في مكانه، فإمّا يزول ويكنَس وإمّا يهرب؛ لأنه لا يبقى إلا مع مصالحه وجشعه، فاستيقاظ الشعوب أول مدارج خسفه، وتحرّكها للخلاص منه يدنيها من تحرّرها، واصطدامها به وتسجيلها الفوز بالنقاط لا بالضربة القاضية كفيلٌ بأن يردّ نقاء البلد ومصيره إلى استقرار يدوم بتوافق أهله وانتمائهم.