ظلَّ حلم العودة إلى قرية "أقرث" المهجرة والواقعة شمال فلسطين، يُراود ناصر حنّا على مدار سنواتِ اللجوء، إلى أن تمكن أبناؤه من تحقيق أمنيته الوحيدة عام 1994، ولكن ميتًا، فهذه القرية الفلسطينية أغلق الاحتلال كل أبوابها أمام عودة لاجئيها حتى ممن بقي يعيش في مدن الداخل المحتل، وأبقى باب المقبرة مفتوحًا أمام عودة الأموات، في رسالةٍ عنصرية هدفها قهر الفلسطيني حيَّا وميتًا.
في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام ثمانية وأربعين، حمل ناصر ابنه فوز الذي كان يبلغ عدة أشهر، وسار به مع نحو 400 فرد من أهالي القرية نحو قرية "الجش" ثم استقروا في قرية "الرامي" بعدما وعدهم جيش الاحتلال بإعادتهم بعد أسبوعين، ليعود الابن وبعد عدة عقود يحمل أباه ويدفنه في القرية: "كانت أمنيته بأن يعود ويستقر فيها حيًّا، لكننا قررنا حتى الأموات نريد إعادتهم" كلمات يؤكد الابن فيها أنّ المعركة ما زالت مستمرة، وأنّ حلم عودة الأحياء بات قريبًا، فنسائمه تهبُّ على قلوبهم لتحيي هذا الأمل من جديد.
قرية "أقرث" وجارتها قرية "كفر برعم" قريتان فلسطينيتان أهلها يتبعون الديانة المسيحية، من أشهر القرى المهجرة خلال حرب 1948، وهُجّر أهلها على وعد إعادتهم، ومنذ ذلك الزمن ما زال أبناؤها يطالبون بالعودة، إلا أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يسمح لهم بالعودة بالرغم من صدور قرارات من الهيئات القضائية تقر لهم بحق العودة إليها عام 1951.
بالرغم من إقامة ناصر حنا، في مدينة حيفا التي تبعد عن قريته 50 كليو مترًا، لم تمنع طول المسافة ولا محاولة الاحتلال بدمجهم بالمجتمع الإسرائيلي من إبعاده عن قريته، فنجح هو ومجموعة من أفراد القرية بفتح باب المقبرة وتنظيفها، وكذلك فتح أبواب الكنيسة للمحافظة على الوجود الفلسطيني في القرية التي ساوت قوات الاحتلال بيوتها في الأرض عام 1953.
غرس الوجود
"في مرحلة معينة ظل أبي ومجموعة من كبار السن يوجدون بالكنيسة، وذلك ليبقي على حق العودة، ويزرعه في نفوس الأبناء والأجيال القادمة، وأوصى بدفنه بالقرية، وزرع فينا حب بلادنا ونحن نقلنا ذلك الحب لأولادنا وقمنا بدفنه" يروي نجله فوزي حنا (74 عامًا) لصحيفة "فلسطين" حكايةَ لجوءٍ تظهر عنصرية الاحتلال تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، يتجلى فيها الظلم والقهر.
لدى حنا ثلاثاء أبناء، منهم اثنان متزوجان ولديهم أبناء، ترك لأبنائه كواشين البيت الذي ورثه عن والده وهي أغلى شيء يملكه: "تحفظ حقنا بأرضنا، وأننا سيأتي يوم ونسترجعه، وأقوم بتوريث هذا الحق لأحفادي".
يقول حنا، عن الخدعة التي تعرضوا لها من الاحتلال الإسرائيلي قبل سبعة عقود ونصف العقد، "طلبوا من أهالي قريتنا إقرث وقرية كفر برعم، الخروج من القرية وترك الأمتعة وستين رجلاً، على أن يعود كل الأهالي بعد أسبوعين، فمكثنا في قرية "الجش" على بعد ثلاثة كيلو مترات، وبعد انتهاء المدة المحددة طرد جيش الاحتلال الرجال الذين بقوا في القرية، وأبعدونا إلى قرية "الرامي" على بعد أربعين كيلو مترًا".
تحتفظ ذاكرة فوزي حنا، بمسار رحلة قانونية خاضها الأهالي مع القضاء عن طريق المحامي محمد نمر الهواري، وفي شهر تموز/ يوليو من عام 1951 صدر قرار من محكمة الاحتلال العليا، بأنه "لا يوجد مانع قانوني من عودة أهالي اقرث وكفر برعم"، إلا أن جيش الاحتلال لم ينفذ القرار.
بل قام دافيد بين غريون، (أول رئيس وزراء في حكومات الاحتلال) والذي كان يشغل منصب وزير الجيش آنذاك، بإصدار أوامر بأثر رجعي بإخراج السكان من القرية، رغم أن السكان خرجوا منها قبل عامين، وفي مطلع السبعينيات سمح للأهالي بترميم الكنيسة وافتتاح المقبرة فقط، وإلى اليوم ما زالت هناك محادثات مع كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
بحسب حنا، كان يبلغ عدد سكان قرية اقرث 500 فلسطيني، فيما كان يبلغ سكان "كفر برعم" ضعفهم قبل النكبة، ويتراوح أعداد لاجئي القريتين نحو ستة آلاف لاجئ، غالبيتهم يعيشون في مدينة حيفا"، وقرية كفر ياسين، والرامي، لافتًا، إلى أن الأهالي يتجمعون سنويًا ويزورن قريتهم لتأكيد ارتباطهم فيها، خاصة في ذكرى النكبة.
ويحرص أهالي "اقرث"، كما يذكر حنا، على الإبقاء على وجودهم المستمر طوال اليوم إما في الكنيسة وإما في أماكن يجلسون فيها، بحيث يعرفون الزائرين على تاريخها، لكنهم عرضة لمضايقات قوات الاحتلال إن اكتشفتهم، فتقوم بمصادرة الأغطية والخيام.
محاولة إسرائيلية فاشلة
الحنين إلى قريته يتدفق مع نبرة صوته، في رده على سؤال "فلسطين" إن استطاع الاحتلال طوال هذه السنوات محو حلم العودة في نفوس الأهالي "لن يستطيع ذلك، فنحن في معركة أمام تهويد الأسماء، وستبقى هويتنا فلسطينية".
لا يفرق الاحتلال بين الفلسطينيين على أساس الدين فالمسلم والمسيحي مستهدف لأنه يحمل الهوية الفلسطينية، فهنا قرية هوشة إحدى قرى فلسطين المهجرة بعد حرب 1948، التي لم تسكن ولم تعمّر إلا بعد سنة 1886 عندما أسكنت حكومة تركيا المغاربة التابعين لعبد القادر الجزائري بعد طردهم من فرنسا، فقدموا مع الأمير عبد القادر الجزائري وأعطاهم ملكية وسكنوا فيها.
وهوشة واحد من 531 قرية هدمها الاحتلال كان يعيش فيها نحو 750 ألفًا هجّرهم من بيوتهم ليصبحوا لاجئين، وقتل قرابة 13 ألف فلسطيني.
موسى بلعيد (73 عامًا) أحد أبناء القرية، يعيش حاليًّا بمدينة "شفا عمرو" على بعد ثلاثة عشر كيلو مترًا عن حيفا، بينما هاجر معظم سكان القرية إلى مخيم "اليرموك" في سوريا، وعدد قليل منهم إلى مخيم جنين، ولم يتجاوز عددهم آنذاك 400 فرد، وبلغوا حاليًّا نحو ثلاثة آلاف.
لم تُنسِ سنوات التهجير منذ النكبة الحب الذي زرعه والده في قلبه، يتجذّر هذا الحب والتشبث في صوته أيضًا، في مستهل حديثه لصحيفة "فلسطين" وهو يعبر عن شوقه للعودة: "يوميًّا أذهب إلى القرية، أُوجد فيها، حيث يوجد متنزه يتيح لنا البقاء هناك، ولدينا أرض قريبة منها، أزرع فيها الزيتون".
تبعد عنه "هوشة" فقط نحو كيلوين، يشتمُّ هواءها كلّ يوم حينما يزورها، لكنه لا يستطيع المبيت فيها ليلة واحدة إلا إذا كان ميتًا فتفتح له أبواب المبيت الدائم في مقبرة القرية كحال قرية "أقرث" وكفر برعم، ويقول: "تمسّكنا بقريتنا عاطفي وعقائدي ووطني، فتراثنا موجود هناك، وقضية شعورنا أننا لاجئون دائمًا موجود ولم ينجح الاحتلال في إبعاد صفة لاجئ عنا، كذلك لم تنجح محاولاته بدمجنا".
يردف موسى الذي تبدو حالته الصحية جيدة للحديث، وكأنه يرى قريته أمامه "نذهب إلى القرية، نمشي بين طرقاتها، أتوقف عند منزلنا المُدمّر ومكانه، عند مسجد القرية المُهدّم، وهذه العلاقة مستمرة منذ أن كان عمري سبع سنوات آتي مع والدي ثم أصطحب أولادي، والآن أصطحب أحفادي معي، ولا يُسمح لنا بالعودة إليها إلا موتى، وهذا يؤكد أنّ كل احتلال هو عنصري، والاحتلال الإسرائيلي استيطاني لأبعد الحدود فهو يريد اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه".