تتحدّثُ آيةُ الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل عن دستور جعله الله منهاج حياة لهم ما لو اتخذوه خطةً لهم وانتهجوها فإنّهم سيحوزون التوازن في الدنيا ويسلكون طريق النجاة في الآخرة، ولكي يكون الدستور "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ.." جامعًا جاء فيه مسائلُ عقديةٌ وتعبديةٌ واجتماعيةٌ أو ما جاء في إطار العلاقات مع الآخرين، وجاء هذا بوضوحٍ تقتضيه طبيعةُ الكتابة للدساتير لا سيما ما كان منها للعامة.
لكنّ العجيبَ في هذه الآيةِ الثالثةِ والثمانين من "البقرة" ترتيبُ القواعد الميثاقية فيها؛ إذ ابتدأت بالأصل الذي لا تُقبل الأعمال إلا بقصّ الشريط منه؛ وهو توحيدُ الله تعالى، ثم اقترن به مباشرةً ما يُمَظْهِرُ التوحيدَ واقعًا بالإحسان إلى الوالدين وما يتّصل بهما من قرابة، فإذا ما نجح المرء في هذا الميدان وحصّل الرقة في ذاته كان محسنًا لليتامى والمساكين، ثم إنّ هذه الرقةَ الداخليةَ تضحى المَعينَ الذي يغرف منه صاحبُه لينوّر لسانَه وكلامَه؛ إذ الألسنةُ مغارفُ القلوب، وابتسامةُ الوجه لا تصلُنا حقيقتُها إلا إذا كانت انعكاسًا للداخل الصادق، ثم بعد ذلك جاء التوجيه التعبّدي بالصلاة والزكاة.
ولعلّ أكثرَ ما يلفتك هنا أنّ الله سبحانه جعل واسطة العقد بين التوحيد والتعبّد أمورًا اجتماعية، اتّصل بالجانب التعبّدي منها قولُه سبحانه "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً"؛ أي أنّ الله سبحانه يتعبّدنا بحسن الكلام والقول الحسن، وأنّ المرء إذا لم يكن طيبَ اللهجة مع الناس فإنّ الله غنيٌّ عن صلاته وزكاته، وهل هذا القولُ الحسنُ إلا تأكيدٌ للمعنى الجميلِ المستفادِ من الصلاة بكون الجميعِ مستوِين في صفوفها، وأنه لا تكبرَ ولا استعلاءَ، وأنّ الأخوّةَ الحقيقية لا تخضع لمعاييرَ قبيلةٍ ولا لونٍ ولا منصبٍ أو جاهٍ، وكذلك القولُ الحسن في الزكاة لمن ليس قادرًا عليها الأوْلى والأعلى من الصدقة التي يتبعها المنّ والأذى، فإذا ما اقترن بها القولُ الحسن جمع صاحبُه بين حسنييْن.
لكن لعلك تقول إنه ورد في القرآن التعبيرُ بالأحسن والحسن، فلماذا جاء السياق هنا بالحسَن؟
والجواب: إنّ اللهَ تعالى يريد أن نكونَ على مسافة واحدة من الجميع إجمالًا؛ بحيث نبرمج أنفسنا على أن تكون تلقائيةَ الحسن لسانًا مع الجميع، والفائزُ الموفقُ في هذه المرحلة سيكون فيما بعدها أكثر توفيقًا ونجاحًا، ثم إنه بهذا ليس لأحد أن يقول إن هذه الدرجة العليّةَ -لو كانت موجودة- لا أستطيعها ولا أقدر عليها؛ لأن الأمر بـ(حُسنًا) جاء بمراعاة الأحوال العامة التي يتمكن منها المحسن والعاديّ، ويوفق الله من شاء ورغب.
ومن الأمثلة على التفرقة بين المصدر وأفعل التفضيل ما جمعته آية "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"؛ فحيث إنّه لمّا كان السياقُ سياقَ وصفٍ للموعظة في ذاتها مشفوعةً بالحكمة كانت (الحسنة) شيئًا لازمًا لها، مع ضمان أنّ الحكمة ستجعلها حُسنى وليست حسنةً فقط، ولمّا كان السياقُ عن التوجّه بالخطاب لغير المسلمين، مع ما يحتمله ذلك من جدالات ونقاشات ومحاولات تغلّب كل طرف على الآخر حضّنا ربُّنا سبحانه أن نكون أوسعَ صدرًا وأرحبَ تقبلا في النقاش والحوار معهم، وألا نخرج عن إطار "الأحسن"؛ لأنه إن لم نظفر معهم بإدخالهم في ديننا فعلينا أن نتركَ فيهم أو أكثرِهم انطباعاتٍ حُسنى من سلوكنا وتعاملنا وكلامنا يظل راسخًا فيهم، ويجعلهم دائمي التفكير في أحقيّة ديننا الخاتم الذين هو الدينُ بالاتّباع.