كان الأطفال في نابلس قديمًا ينتظرون قدوم رمضان بفارغ الصبر لأنهم سيمارسون عادة "السوق نازل"، لكي ينزلوا إلى سوق البلدة القديمة بعد الإفطار طيلة ليالي الشهر الفضيل، يأكلون الحلوى التي يكرمها بها أصحاب محلات الحلويات مجانًا.
يجوبون حارات وأزقة البلدة القديمة، حتى يصلوا عند "باب الساحة" وهو مكان للتجمع داخل نابلس، ومن ثم ينطلقون نحو السوق، يشترون بالتعريفة "عملة أردنية" النعومة، وشعر البنات، وملبس الحامض حلو، وتحلي ضحكاتهم ليالي رمضان حينما يدقون الطقيع "نوع من المفرقعات" ويصدر صوتًا يخيفون به بعضهم البعض.
وللسوق نازل حكاية يعرفها النابلسيون صغارا وكبارا، وإذا ما ذكرت أمامهم فاضت أعينهم مستذكرين طفولتهم ولحظات جميلة عاشوها، فالسوق هي المكان والنازل هو كل زائر للسوق من صغير وكبير "ومقمط بالسرير" (الرضيع).
حكواتي نابلس طاهر باكير، يروي أن "السوق نازل" يعني النزول إلى سوق البلدة القديمة في نابلس، وهي عادة قديمة كانت شائعة في بلاد الشام، حيث كانت نابلس جزءا من نسيجها، وتراثها، وحضارتها، وثقافتها، فالعادات، والأبنية كذلك متشابهة، فهي كانت مرتبطة مع دمشق تجاريًا ونسبًا.
ويقول باكير لـ"فلسطين": "في العادة أهل نابلس يلتزمون بيوتهم قبل المغرب، ويرون الليل من وراء الشبابيك، فأمنيتهم دوما هي رؤية الليل وعيش أجوائه، فهذه الأمنية تتحقق في الخروج ليلا إلى السوق".
ويضيف: "التسوق يكون للمقيم والزائر، لذلك هذه الأسواق تأخذ ميزة في رمضان، وتزداد بهجة بالزينة والإضاءات، وتقدم المحلات الحلويات التي تشتهر بها نابلس، فيخرج الأطفال ليلا وينزلون إلى السوق بعد المغرب".
ويشير باكير أن "السوق نازل" فيه عادة جميلة فيه حيث تقدم محلات الحلويات الحلوى مجانًا للأطفال، الذين يسيرون في مجموعة، حيث تقود المسير طفلة الكبيرة تنشد لهم أغنية السوق النازل، وفيها تقول ومن خلفها الأطفال يرددون:
"ونزلت ع السوق نازل، لاقيتلي (وجدت) تفاحة، حمرا حمرا لفاحة، حلفت ما باكلها لا يجي (حتى يأتي) خيِّي وبيِّي، واجا خيِّي وبيِّي وأطلعني (أصعدني) ع العلية، والقيت شاب نايم غزيته غزيته واشربت من زيته وزيته تمر حنا معلق باب الجنة، يا جنة ما أحلاكِ، رب السما حلاكِ".
ومن ثم تنشد الصبيّة بلهجتها النابلسية "يا بنياتي يا بنياتي"، فيرد الأطفال "نعم يما نعم يما"، "لأجوزكن (سأزوجكن) لأجوزكن"، "لمن يما لمن يما"، "للحلواني للحلواني" وهو بائع الحلوى الذي يعطيهم من حلواه، فيأخذها الأطفال ويرددون "ما نريدوا ما نريدوا" وكذلك مع باعة القضامة و"النقارش" (المسلّيات) والفاكهاني وغيرهم.
خيال الظل
وفي عادة "السوق نازل" قديمًا، كان الأطفال والنساء والكبار يفرحون بـ"كراكوز وعيواظ" وهي دمى خيال الظل، حيث يقدمان الحكايا، والمقالب، بقالب كوميدي طريق، كما تشتهر الليالي بالحكواتي، الذي يقدم الحكايا والقصص في مقهى في السوق.
وداخل مقاهي البلدة القديمة يقدم باكير في ليالي رمضان قصصه وحكاياه القديمة مدخلًا عليها لمحة عصرية، "فالحكواتي هو جزء من تراث نابلس وهي مدينة تستحق أن يكون فيها حكواتي أن يروي فيها حكاياتها، بالزي النابلسي الأصيل، إن مشيت بأزقتها وحاراتها من همس جدرانها تكتب حكاياتها، فنابلس حبلى بالحكايا ففيها حضارات متعاقبة"، يقول باكير.
ويذكر أن الناس كانوا ينتظرون الشيخ نظمي "يمارس الطريقة الصوفية" الذي كان يأتي حاملًا عدته من دفوف كبيرة، وطبول، حيث كان يقيم مع فرقته بلباسهم التراثي المميز المدائح النبوية، وأعمال شبه بهلوانية، وكانت إحدى المكافآت التي تقدم للأطفال، والنساء.
ويلفت إلى أن بائعي العصائر والمشروبات الرمضانية ينتشرون في السوق أيضًا، وعادة يكون مزدحمًا أكثر من أيام العيد.
ويختم باكير وبلهجته النابلسية التي يمد فيها الحرف الأخير مع كسره على الوتر العاطفي وهو يحدث الناس أخبار مدينتهم: "نابلس تلات دياناتهي، عاشوا بسبات ونبات، خلفوا صبيانهي، وخلفوا بناتهي، بأزقتهي، وحاراتهي، خرجوا خيرة رجالتهي، وحدتهم الياسمينة "حارة"، وحدتهم كنافاتهي، وحدهن القريون "حارة"، والصابون، وشرب الأرجيلة على البلكون، والمحبة تدوم يوم بعد يوم عشيتي يا نابلس".