أجد حرصًا كبيرًا عند كثيرٍ من الشباب على الاعتكاف في المساجد، ولا سيَّما في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وهم بلا شكٍّ مشكورون مأجورون على هذه الطاعة المباركة، وللحق فقد شهدتُ الاعتكاف في بلادنا غزة، قد بدأ منذ مدة طويلة، وكان من أوائل المساجد التي فتحت أبوابها للاعتكاف مسجد الصحابة وهو مسجد يقوم على إدارته جماعةُ الدعوة والتبليغ، وقد كان هذا أيام الاحتلال، وأذكر أنَّ أول يوم اعتكفت فيه كان يوم الخميس عام 1989م.
والاعتكاف وهو حبسُ النفسِ على طاعةِ الله مدةً من الزمن؛ أمرٌ مشروعٌ ما لم يضيعْ واجبًا، وقد ذكره الله في القرآن أكثر من مرة، ولا سيَّما عند الحديث عن آيات الصيام فقال {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان أكثر من مرة، فعَن أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه- قَالَ: "اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ" رواه البخاري حديث رقم: 813.
وأشهد -واللهِ- أنَّ الاعتكاف واجتماع الشباب في المساجد كان له أثر كبير في تربية النفوس وتزكية الأرواح، ولا يمكن أن أنسى الأيام الأولى التي بدأنا فيها الاعتكاف في المسجد العمري الكبير بغزة، إذ كان المسجد قبلةً للشباب من كل محافظات قطاع غزة، وكان يقصده للاعتكاف مئات من الشباب، يتقدمه كثير من الشهداء -رحمهم الله- رحمةً واسعة، وما ذاك إلا لحسن أخلاق الشباب في المسجد، ولجميل الجدول المعد وقتها، بحيث كان جدول الاعتكاف يشمل: الصلاة، والدعاء، والموعظة الحسنة، والابتهالات، وشيئًا من المشروبات الرمضانية.
ولكني مع كل ما سبق أقول: إنَّ الاعتكاف مع عظيم أجره لكنه لا يعدو أن يكون سنةً يؤجرُ فاعلُها ويثابُ بلا شك، ولكنه لا يناسب كل الناس، ولو اعتكف كل الناس لتعطلت مصالح العباد، وهذا غير مطلوب شرعًا، ولئن ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف لبيان المشروعية، فلا أعلم أن الخلفاء -رضي الله عنهم- قد اعتكفوا لا رغبةً عن السنة، وإنما لأنهم رأوا غيرَ الاعتكاف أعظمَ أجرًا، والله أعلم.
وما يقع فيه بعض الشباب -هداهم الله- أنهم يحرصون على الاعتكاف حرصًا عجيبًا، وهم مع ذلك ربما يضيِّعون حق الأهل، أو يعتكفون مع العقوق وقطيعة الرحم، أو يعتكفون وربما تسبب اعتكافهم في طردهم من أعمالهم ووظائفهم، أو يعتكفون وأهلهم في حاجة ماسة إليهم، فلا تقضى لأهلهم حاجة إلا بهم، ثم تجدهم يصرون على الاعتكاف وكأنه فرض الفرائض وواجب الواجبات، وقديمًا كتبت مقالًا كان بعنوان: "خِفةُ العَقلِ، واتبَاعُ الهَوَى".
لا يحسنُ بعضُ الشباب الموازنة بين الطاعات، فتجده مستعدًّا للموت في سبيل القيام بطاعة، غاية ما يقال فيها إنها من السنن، وأقصد الاعتكاف، والتي -ربما- لم يثبت في فضلها أي حديث صحيح، سوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف فقط!
فالقيام والاعتكاف في المساجد أمرٌ مشروع دون إنكار من أحد، ولكن القيام على الأهل وقضاء حاجاتهم التي لا تُقضى إلا بك؛ أعظم أجرًا وأكثر ثوابًا، هذا لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، هذا لمن قصدَ الأجرَ ولم يتبع الهوى، هذا لمن قادَه العلمُ والإيمانُ ولم يستجب لدواعي الخِفَّة والشيطان، فالمبيتُ تحتَ أقدام الوالدين قضاءً لحاجاتهم وتسليةً لقلوبهم أعظم أجرًا وأكثر ثوابًا، علمًا بأن الموازنة بين قضاء الواجبات التي لا تقوم إلا بك، وبين الاعتكاف والقيام في المساجد أمرٌ ليس مستحيلًا ولا شاقًّا، والله أعلم.
نعم، اعتَكِفوا يَا شَبابُ، وَصَلُّوا القِيامَ في المَساجِد، ولكَنْ لَا تُضيِّعُوا حَقًّا وَلا تُفَوِّتُوا وَاجِبًا