فلسطين أون لاين

شُؤونُ المُوظفِين وَحِمايةُ الغَافِلين

 

أصبحت الوظيفة حُلمًا لأكثر الشباب في وقتنا الحاضر ذلك لأنها تكفل لهم الستر والكفاف، وإن كانت لا تضمن لهم الغِنى وقضاء كل الحاجات، ولأجل نيل الوظيفة تجد الشباب يتسابقون في التحلي بكل ما تتطلبه هذه الوظيفة أو تلك من: دورات وشهادات ولغات ومهارات، لعلَّ الواحد منهم يحظى بهذه الوظيفة، التي من شأنها أن تجعله مُنسلًا من قائمة: البطَّالين عن العمل، وهي لا شك في واقعنا المعيش -خاصة في قطاع غزة- أصحبت تشكل سبيل نجاة من الفقر والحاجة، بل الدرجة الأولى في بداية مشروع الحياة الذي يحلُم به كل شاب.

ولستُ هنا في معرض تحريضي الشباب على عدم التعلق بالوظيفة، ولا تشجيعهم على النزول إلى سوق العمل والضرب في الأرض وخوض غمار التجارة ففيها الرزق الوفير، أقول: لست هنا في معرض الحديث عن هذا غير أني هنا أتطرق إلى ما عُرف حكوميًّا بشؤون الموظفين، وهي دائرة ربما كانت موجودة في كل مؤسسة، حكومية أو خاصة، وهؤلاء الذين يعملون في هذه الدائرة هم أكثر الناس علمًا بحقوق وواجبات الموظفين، فعندهم لا عند غيرهم ترِد الشهادات والدورات والترقيات والسفر والإجازات والإنذارات، وصولًا إلى التقاعد أو الاستقالة أو الطرد من العمل وإنهاء التعاقد لهذا السبب (القانوني) أو لآخر.

والظنُّ في العاملين في دائرة شؤون الموظفين أن يكونوا: أكثر الموظفين حرصًا على تحقيق ما ينفع الموظف وتجنيبه ما يضره، أن ينبهوا الموظف على ما ينفعه ليفعل ويزيد من راتبه وترقيته، وأن ينبهوه على ما يمكن أن يضره ويقعد به ويسبب له حرجًا وعنتًا وربما خصمًا وطردًا، الظَّنُّ بِهَؤلاءِ الحافظين المواد القانونية والعارفين بالنظم واللوائح الداخلية أن يكونوا بمنزلة الأبِ الحريص على الموظف: أن يُنبهوه إذا غفِل، ويُذكروه إن نسِي، ويُحذروه إن تَمادى، الظَّنُّ بِهَؤلاءِ أن يجعلوا الموظف في مأمنٍ على حقوقه لأنهم الأعلم، وأن يجعلوا الموظف مرتاحَ البال هادئَ الخاطر لأنهم مَن يمتلك المعلومات والبيانات، وإن كان الموظفُ في غفلةٍ من حقوقٍ له لم تُكتب، أو واجباتٍ عليه لم تُرصد، أو ترقياتٍ للموظف لم تُعلن ولم تُعلم بعد.

وأقولُ: إن من أكبر واجبات العاملين في شؤون الموظفين رعاية الغافلين عن حقوقهم وغير العارفين بما لهم وما عليهم، وهؤلاء هم الأكثر من الموظفين في كل الوظائف الحكومية أو الخاصة، وهذا يجعل العبء يعظم والمسؤولية تكبر على هؤلاء الإخوة، الذين قدَّر الله لهم أن يكونوا في منطقة متقدمة على غيرهم من الموظفين.

أما أن يكون هؤلاء العاملون في شؤون الموظفين ملوكًا أكثر من الملك، بحيث يَضِنُّون على الموظفين بمعرفة ما لهم من حقوق، ويسارعون في تنبيه الموظفين إلى ما عليهم من واجبات للمؤسسة بعبارات تخويفية وتحذيرات توتيرية، ويسود بينهم خُلقان ذميمان:

الأول: "لَا حَقَّ لِغَافِلٍ"، ويقصدون بها أنَّ الموظف ما دام أنه غافلٌ عن حقه، لا يعرفه ولم ينبهه أحدٌ عليه، ولم يمر له على خاطر؛ إذًا فليبقَ الموظف على حاله: غافلًا لاهيًا لا يدري، ولتستمر مسيرة المؤسسة وهي تهضم حقَّ الموظف المسكين الذي -ربما- لم يقرأ عقدَ توقيع الوظيفة حين تسلم الوظيفة من فرط فرحته، أو أنه قرأه دون أن يتبين له ما بين السطور من حقوق وواجبات، وقد حدثتنا السنة النبوية أن عاملًا سخِط عن حقه فتركه غفلةً منْهُ مدةً من الزمن، ثم عاد ليسأل عنه فوجد صاحب العمل قد نمَّى له حقَّه حتى غدا قطيعًا من الإبل والغنم فأخذه كله ولم يذَر منه شيئًا.

الثاني: "القَانُونُ لَا يَحْمِي المُغَفَّلِين"، يعتمدون هذه العبارة وكأنها نزلت من السماء، لها نصيب من القداسة والهيمنة بحيث لا اجتهاد في فهمها، فهي نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهي عبارة خطأ جملة وتفصيلًا، بل إنها تحمل في طياتها استمراءً وتسويغًا لظلم الموظفين وضياع حقوقهم، بحجة أنهم لم ينتبهوا ولم يبحثوا ولم ينقبوا، مع أنَّ العبارةَ مغلوطةٌ ظالمةٌ؛ فالقانونُ -والشريعةُ قبلَه- جاءَ لرعايةِ حقوقِ الجميع، خاصةً غير المُنتبهين، الغافِلين لا المُغفلين، فليس في الموظفين من يتعمد ترك حقِّه وحقِّ أولاده في حياته ومن بعده، لكنه يمكن أن يغفل (يسهو) عن هذا الحق أو ذاك، ويأتي دور النظام والقانون لحماية الغافلين وتنبيهم إلى حقوقهم وتذكيرهم بواجباتهم، وفي الشريعة الإسلامية قواعد محكمة لهؤلاء، منها: "خيار الغبن" و"خير النظرين" و"خيار الرد"، بل إن الشريعة جاءت لتحمي كل المتعاقدين لا الغافلين فقط.

أمَّا العَاملون في شُؤون المُوظفين بأمانة وصدق، يَجبرون الكسرَ ويُعينون المُتعبَ ويُنبهون الغافلَ؛ فهؤلاء لهم أجرُ الصدقة، ولو لم يتصدقوا، فَعن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) عن النبيِّ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم) أَنَّهُ قَالَ: «الخَاِزنُ المسلم الأمين الَّذِي يُنْفِذُ ما أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفسُهُ فَيَدْفَعُه إلى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أَحَدُ المُتَصَدِّقِين» (رواه البخاري ومسلم).

إنَّ القَائِمِينَ عَلَى شُؤوُنِ المُوَظَّفِينَ تَحَمَّلُوا أَمَانَةَ المُؤَسَّسَةِ وَالمُوظَّفِينَ، فَهُم إِمَّا أَكْثَرُ المُوَظَّفِينَ أَجْرًا، وَإِمَّا أَنَّهُم أَكْثَرُ المُوَظَّفِينَ إِثمًا وَوِزْرًا.