ينضمّ القرار الإسرائيلي بفرض قيود وعوائق على وصول الفلسطينيين إلى كنيسة القيامة للمشاركة في احتفالات "سبت النور"، إلى الاقتحامات والانتهاكات والاعتداءات المتواصلة على المصلين من قِبل قوات الاحتلال في الحرم القدسي الشريف، لترسم صورة واضحة فيها عن العدوان الإسرائيلي المتأصل على حرية العبادة والمعتقد، ومحاولات النيل من الرموز الدينية والتاريخية والحضارية للقدس، بوصفها العاصمة الروحية والسياسية للفلسطينيين، وقِبلة العرب والمسلمين الأولى.
وإذا كان لـ(إسرائيل) في الأقصى أطماع دينية تبدأ في التقسيم المكاني والزماني، وتنتهي بإحلال الهيكل المزعوم مكانه، تأكيدا للرواية التوراتية التي جرى توظيفها في خدمة الأهداف الاستعمارية الصهيونية في فلسطين؛ فإن تهميش المعالم الدينية المسيحية وتقزيمها، يندرج أيضا ضمن هذا المخطط الذي يسعى إلى إعادة كتابة التاريخ، ورسم الجغرافيا بواسطة تغيير الواقع، وتكريس الهيمنة السياسية الشاملة عليها.
وتسعى (إسرائيل) إلى تغيير المعالم الدينية للمدينة المقدسة، بما يتلاءم مع مخطط تهميش طابعها الإسلامي - المسيحي، واختلاق معالم دينية يهودية، عبر عملية الاقتلاع والإحلال التي تمت ممارستها ضد الإنسان الفلسطيني، وجرى سحبها على الكثير من الأمكنة التاريخية والدينية، وفي مقدمتها الحرم الإبراهيمي في الخليل، ويُصار إلى تنفيذها بخطى حثيثة في الحرم القدسي الشريف.
ويخطئ من يظن أن الموضوع يقتصر على بضع عشرات أو مئات من المتطرفين المتدينين اليهود، الذين يبتزون "الدولة" و"الحكومة" و"الشرطة" و" الجيش"، لأن الحقيقة هي أن كل مؤسسات الدولة العبرية تلك، تستعمل هذه المجموعات كرأس حربة لتحقيق هذا الهدف الذي يندرج على رأس الأجندة الصهيونية العلمانية التقليدية، قبل صدور "طبعتها" الدينية الحالية، ويجدر التذكير في هذا السياق بأن موشيه ديان وبتوجيه من بن غوريون (العلمانيون جدا) هو من هدم حارة المغاربة بعد حرب 67 مباشرة، لإقامة وتوسيع "باحة الصلاة" المقابلة لحائط البراق المسمى بحائط المبكى.
ويكفي لفهم المنطق الصهيوني بهذا الخصوص، الإشارة إلى المقال المستهجَن الذي كتبه محلّل "الشؤون العربية" في صحيفة "هآرتس"، تسفي برئيل، ونُشر الأربعاء الماضي، تحت عنوان: "الحرب على جبل الهيكل (الحرم القدسي الشريف) هي مسألة وقت"، حيث يؤيد برئيل متطرفي اليمين الديني الذين يحاولون اقتحام الحرم القدسي الشريف مرة تلو الأخرى، ويعتبر ذلك محاولة لفرض سيادة دولة (إسرائيل) على المكان، موضحا أن هؤلاء لا يرون في "الصلاة" هدفا، بل إن الهدف يتمثل في السيادة والسيطرة والملكية والمرجعية.
ويرى أن ادعاء هؤلاء بأن (إسرائيل) لا تحكم تلك المساحة المقدسة، لأنه طالما لا يستطيع اليهود الصلاة هناك كما يريدون، فإن ما يُسمّى بـ"جبل الهيكل"، ليس بأيدي (إسرائيل)، ولا جدوى من تعريف الدولة كدولة يهودية، إذا كانت قد وافقت على تقاسم المكان الأكثر قداسة لمؤمنيها مع المسلمين، بل إنها تنازلت وانسحبت من المكان الذي تتمتع بحق به منذ القدم ومسجل على اسمها في أم الكتب (التوراة).
إنها الفترة التي تتجلى فيها (إسرائيل) بكامل حقيقتها كدولة مستوطنين، ويكشف الحاضر الاستيطاني الاستعماري كما يرتسم اليوم بكل وقاحته وعدوانيته وعنصريته، عن أساسات المشروع الاستيطاني الكولونيالي، الذي بدأ في مطلع القرن الماضي وأسس دولته في فلسطين على أنقاض شعبها عام 1948، وبلغ به الصلف هذه الأيام، حدَّ التنكُّر الكامل لأدنى الحقوق الوطنية للفلسطينيين، على أي جزء من أرض فلسطين التي أحكمت (إسرائيل) سيطرتها عليها من البحر إلى النهر.
القضية ليست قضية تغيّرات جارية داخل الحركة الصهيونية وديمغرافيا مجتمعها الكولونيالي فقط، بل هي استضعاف إلى أبعد الحدود، للمحيط العربي، واستقواء بحكامه التابعين والمأجورين عليه، والجديد هو امتداد تلك التبعية إلى الواقع الفلسطيني من خلال سلطة التنسيق الأمني برئاسة محمود عباس، والإسلامية الجنوبية برئاسة منصور عباس، والتي تقوم بأصواتها حكومة الضمّ والاستيطان، الأكثر فاشية في تاريخ (إسرائيل).
وخيرا فعل محمود عباس عندما أجل الاجتماع "الطارئ" الذي عينه لبحث الاعتداءات على الأقصى، لأن انعقاده كان سيبطل صيامه فقط، كما فعل خيرا منصور عباس أيضا، عندما نسّق مع يائير لبيد تجميد عضويته في الائتلاف الحكومي خلال فترة الاقتحامات، لأن التنسيق مع بينيت كان سيبطل صيام الأخير فقط.