فلسطين أون لاين

كيف تعيش مع القرآن غضًّا؟! (2-2)

يكمل مولانا ابن مسعود حديثه عن أسباب تقدمه وعلوّ كعبه في القرآن، فيقول: وحتى أكونَ أكثرَ تركيزًا في الجوابِ على سؤالك الكريمِ أخي أبا خالد، أقول لك:

إنّ القرآنَ كان بعضَ أنفاسي، ويحدث أن يكونَ كلَّ أنفاسي، هل تذكر لمّا صعِدت شجرةً بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض شأنه، استضحك بعضُ أصحابي دون قصدٍ منهم ولا انتقاصٍ منّي لحُموشة ساقيّ ونحافتهما؟! فأومأتُ بالإيجاب.

فأكمل ابنُ مسعود: وما كان هذا منّي إلا لعظيمِ انشغالي بالقرآن، ومتابعتي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يشغلني عن طعامي، وكيف لا يشغلني وبالقرآن الرِّيُّ حتى التضلّع، والشِّبَع يوافق الامتلاء!

بل أذكر ذاتَ مرّة أنّي كنت في بعض أموري فإذا بأبي بكر وعمرَ سبق الأولُ الثاني، يأتيان سريعيْن ليبشراني بشارةً لا أزال أعلّق شهادتَها في صدر غرفة الضّيفان ممهورةً بالختم الشهير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نصّها: "من أراد أن يقرأ القرآن غضًّا كما نزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد".. لا أحدثك -أبا خالد- عن بكائي الغزير حتى جفّ حلق عينيّ! شعرت وقتها أني في روضةٍ من الجنّة فردوسيّةٍ على الحقيقة لا الخيال.

داخلتُ هنا لأسأله: ألا تخبر القارئ الكريم بمعنى هذه الشهادة المعجِبة؟

يبادر ابن مسعود للجواب كأنه ينتظره أو كان في تحضيراته لهذا اللقاء، فيقول: إنّه يعني أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصلني لدرجة أن قراءتي القرآنَ تقارب النزولَ الجبرائيليَّ الأولَ للوحْي، حتى إنه لمّا قابلني مرةً -وأقول هذا الكلام تأكيدًا-، وأمرني أن أقرأ من القرآن بحضرته، فأُرتج عليّ وأُغلق، وارتبكت ورجفتُ، ولم أستطع حتى أخبرني أنه يشتهي سماعه من غيره، فقرأت من "النساء" حتى وصلت "وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً"، فاستوقفني، وإذا عيناه تذرفان.

أستحضر هذه القصة مع سؤالك الكريم لأقول: إنّ الذي حضرني في ذلك الوقت مع البشارةِ الشهادةِ السابقةِ أنّ قراءتي لعلّها هيّجت في رسول الله أشواقَه إلى التنزيل الأول، فلعلّه تذكر جبريل وقرءاته الأولى، لا أدري! المشاعر متداخلة!

لكن لا أخبرك ماذا فعلت أمّي أمّ عبد، فقد ملأت البيت زغاريدَ، وقبّلتني، وحملتني، وطافت بي حول قِدر البيت خمسًا من شديد فرحها، وجعلت تنادي صواحبَها وجاراتٍ لنا عبر مكبّر صوت لسانها، فإذا ما حضرْن عدّلت "ربطة عنقها" وهي تقول بفخرٍ غيرِ خافٍ: ابني أبو العبد حصّل شهادة أرقى من "دكتوراه" الأعاجم؛ إنها من سيد ولد آدم، اقرأْن ما هو مكتوب فيها؛ إنّ أستاذه يشهد له أنه الأولُ على صفّ تلاوة القرآن طولَ الزمان ومدى الدّهر. تخبرهنّ قليلًا، وتنظر إليّ بحبٍ وفرحة غامرة، وأنا قد أكلَت وجنتيّ الحمرةُ حتى نافست "بندورة الدار"، لكنّي سعيدٌ بأمّي جدًّا، فهذا بعضُ ثمارها، حتى إنني منسوبٌ إليه أكثر من مسعود بن غافل.

وسامحني أبا خالد، فهذا موعدُ صحو الرسول بعد القائلة، ولا بدّ أن أكونَ في الانتظار. نراكم لاحقًا تصحبُك عينُ الله.