لا أدري إن كنت قد وُجدت على الأرض قبل نبي الله آدم وزوجته حواء أم بعدهما.. ولكن ما أعرفه أنه كان لي لقاء مباشر مع اثنين من أبنائهما في موقف هو الأسوأ على الإطلاق في الأرض في تلك الأوقات. ولتتضح الأمور لكم دعوني أبدأ الحكاية من بدايتها.
كانت الأرض فارغة آنذاك إلا من أشجار ونباتات كثيرة، وحيوانات وطيور وحشرات وغيرها.. لم يكن يسكنها من البشر سوى آدم وزوجته حواء، بعد أن أغواهما الشيطان فعصيا ربهما، فأخرجهما من الجنة إلى الأرض لتصبح مسكناً لهما. جعل آدم من أحد الكهوف بيتاً له، أعدَّه لتُمضي فيه حواء وقتها، ويناما فيها ليلاً ويحتميا من البرد والأمطار شتاءً ومن شدة الحرِّ صيفاً، ومن أذى الحيوانات المفترسة والسامة حين يشعرا بخطر يتربص بهما.
كان آدم يمضي يومه في ملاحقة الحيوانات لصيد واحد منها وجمع الثمار التي تصلح لأكل البشر لإطعام أسرته، أما حواء فتطهو الطعام وتصنع ما يكسو أجسادهم من الصوف وجلود الحيوانات، وتعتني بالصغار.
كانت حواء تنجب في كل حمل توأماً: ذكر وأُنثى، فأنجبت أبناء وبنات كُثرًا، ففي الحمل الأول مثلاً أنجبت قابيل واقليما، والبطن الثاني هابيل ولبودا. وهكذا.. وكانت اقليما جميلة تشبه أمها حواء.. وأمنا حواء أخذت نصف جمال البشر فكانت بارعة الجمال.
ولما أراد قابيل أن يتزوج، ولنتذكر هنا أنه لم يكن على الأرض أي بشر سوى هذه الأسرة، قال له والده آدم: تستطيع أن تتزوج لبودا توأم أخيك هابيل، لأن الخالق قد سنَّ عليكم أن يتزوج كل ذكر منكم توأم أخيه.. وتُحرَّم عليه توأمه. نظر قابيل بغضب قائلاً: كيف تحرمني من الزواج بـِـ اقليما وهي الأجمل؟
قال آدم: لست أنا من أردت ذلك.. إنها إرادة الله.
اعترض قابيل على إرادة الله، وجادل والده في ذلك.. بينما هابيل صامت مستسلم لأمر الله.
فقال له آدم عليه السلام عندما احتدم الأمر: فليقدم كلٌ منكما صدقة.. ومن يتقبَّل الله قربانه يتزوج اقليما.
كان هابيل يعمل في تربية الماشية، أما قابيل فيعمل في زراعة القمح.
ذهب هابيل إلى خرافه، وانتقى من بينها الأسمن والأجمل، واختاره ذي قرنين قويين وصوف كثيف نظيف. أما قابيل، فمضى إلى زرعه.. وقطع منها باقة من السنابل بشكل عشوائي، لم يهتم بشكلها أو حجمها.. الأسهل له والذي يستطيع الوصول له وقطعه دون عناء.. مضى هابيل وقابيل إلى حيث أمرهما والدهما ووضعا القربان.. وجلست الأسرة ترقب ما سيحدث.
مرَّ الوقت ببطء شديد قبل أن تهبط نار من السماء وتلتهم كبش هابيل!
إذن قُبِلت صدقة هابيل ولم يُقبَل قربان قابيل.. ومعنى ذلك أن اقليما ستصبح زوجة هابيل!
لم يستسلم قابيل للنتيجة.. بل سخط وحقد على أخيه هابيل وهدَّده وتوعَّده قائلا: لأقتُلنك!! سأقتلك وأتزوج اقليما رغماً عنكم جميعاً.. لن تمنعوني مما أُريد.
فردَّ عليه هابيل قائلا: لئن رفعت يدك لتقتلني، لن أفعل مثلك.. إني أخاف ربي، سيغضب الله عليك وتكون من أهل النار، والنار جزاء من يظلمون غيرهم.
لم يقتنع قابيل بهذه الحجج، وابتعد غاضباً، يوسوس له الشيطان ويشعل نار الحقد في قلبه.. فكما أغوى أبيه آدم وأضلَّه وكان سبباً في إخراجه من الجنة، سيظل يحرض قابيل على أخيه حتى يقتله.
مضى قابيل يتنقل من مكان إلى آخر يفكر ويحيك الخطط في ذهنه" كيف يقتل هابيل خاصة وأن هابيل أكبر حجماً وأكثر قوة؟ فإذا صارعه لن ينتصر عليه.
أخذ يلاحقه ويراقبه حتى شاهده يوماً ينام بين الأعشاب.. فتناول حجراً كبيراً وبكل قوة ضرب رأسه به.. سالت دماءه، وسكنت حركته، وانتهى أمره!
شعر قابيل بخوف شديد.. وأخذ يبكي بقوة.. ويهزُّ أخاه ولكن دون فائدة..
لقد مات هابيل..
حمل قابيل الجثة وطاف بها من مكان لآخر لا يدري ماذا يفعل.. فلم يكن أحد قد مات على الأرض من قبل!
وهو يعلم جيداً أنه إذا ترد جثة أخيه فستأكلها المفترسات وتتناهشها الحشرات.. وزاد ذلك من حزنه.
كنت على مقربة من قابيل وجثة أخيه حين مات أحد الغربان وكان عليَّ دفنه.. حفرت الأرض بمنقاري حتى تكونت حفرة تتسع للغراب الميت.. سحبته داخلها وغطَّيته بالتراب.. شاهدني قابيل فبكى بصوت عالي وهو يقول: وهل عجزت عن مواراة جثة أخي مثل هذا الغراب؟
وفعل قابيل مثلما فعلت ودفن أخيه ثم مضى حزيناً نادماً على فعلته.