انطلقت أول من أمس الأحد قمة سياسية في النقب المحتل بدعوة من وزير خارجية الاحتلال يائير لبيد ومشاركة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وحضور وزراء خارجية كل من الإمارات والبحرين ومصر والمغرب، في ظل حراك دبلوماسي صهيوني تصاعَد خلال الآونة الأخيرة، حيث تأتي القمة بعد أيام معدودة من انعقاد قمة شرم الشيخ التي جمعت رئيس وزراء الاحتلال مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، وأيضًا بعد أسبوعين من زيارة قام بها وزير خارجية الاحتلال للعاصمة الأردنية عمّان والتقى خلالها بالملك الأردني عبد الله الثاني في إطار مساعي الاحتلال لتهدئة الأوضاع الميدانية في فلسطين المحتلة، وسط هواجسه المعلنة من تصاعد المقاومة الشعبية والمسلحة خلال شهر رمضان المبارك.
انعقاد قمة النقب ومن قبلها قمة شرم الشيخ وما صاحبها من حراك دبلوماسي متصاعد من قبل الاحتلال يأتي في ظل هواجسه المعلنة من إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ووصول المفاوضات بين إيران ومجموعة الدول (5+1) إلى مراحل متقدمة، ما يشير إلى قرب التوقيع على اتفاق يشمل خفض الأنشطة النووية الإيرانية مقابل رفع عقوبات الدول الغربية عن إيران، وهو الأمر الذي يعده كيان الاحتلال تعزيزًا مباشرًا لقوة إيران الإقليمية اقتصاديًّا وعسكريًّا.
يهدف الاحتلال الصهيوني من انعقاد قمة النقب بحضور وزير الخارجية الأمريكي إلى إعلاء الصوت الرافض لتوقيع الاتفاق النووي الإيراني، ليكون هذه المرة عبر ألسنة ممثلي الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، وهو اتفاق وشيك يعتبره كيان الاحتلال خطرًا استراتيجيًّا يهدد تمدده السياسي والأمني وتوسعه الاقتصادي في المنطقة العربية، بمعنى أن الهدف الصهيوني هو إرسال رسالة احتجاج قوية للبيت الأبيض بأن رفض توقيع الاتفاق هو خيار كل النظم المتحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة العربية وليس رفضًا صهيونيًّا فقط.
تحرص حكومة الاحتلال على إظهار الكيان بمظهر الوريث الحصري للدور الأمريكي الذي بدأ ينكفئ عن المنطقة مع هزيمة الجيش الأمريكي في أفغانستان، وتراجع سطوته في العراق، وانسحابه التكتيكي من المنطقة، ورفعه غطاء الحماية عن النظم العربية التي لطالما استقوت بقواعده العسكرية في المنطقة، والتي باتت ترى في كيان الاحتلال بديلًا محتمَلًا للعصا الأمريكية في المنطقة، لذلك وجدنا قادة الاحتلال أكثر اهتمامًا بنشر وترويج دولي لصور القادة المجتمعين في النقب ومن قبلها في شرم الشيخ وعمّان.
ومع إعلان الإعلام العبري أن قمة النقب ستناقش قضايا التعاون المشترك في مجال الطاقة، في ظل تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على المنطقة وعلى أسواق النفط والغاز العالمية، لوحظ غياب وزير الخارجية الأردني عن حضور القمة، ليشارك في زيارة الملك الأردني لرئيس السلطة الفلسطينية في رام الله في محاولة مشتركة لتهدئة الأوضاع الميدانية خوفًا من اشتعالها في رمضان المقبل، رغم أن كلا الطرفين فاقد للتأثير على جيش الاحتلال الذي يقتل ويعتقل الفلسطينيين على مدار الساعة في الضفة والقدس، وكذلك لوحظ إقصاء مُتعمد من الاحتلال للسلطة الفلسطينية عن المشاركة في القمة، وهي السلطة التي باتت نتيجة ضعف قادتها، وتخليها طواعية عن كافة أوراق القوة في جعبتها لاعبًا فاقدًا للتأثير الفاعل في الساحة السياسية، ما دعا الصحفي الصهيوني "أوهاد حيمو" أن يصف رئيسها محمود عباس بأنه أضحى "لاعبًا مُرهقًا، معزولًا وغير فعال"، وهو وصف يأتي نتاجا طبيعيا لسياسات السلطة التي ارتضت لنفسها من خلال تنازلاتها المتكررة، وتنسيقها الأمني، وتبعيتها الاقتصادية للاحتلال أن تكون جسر مرور للاحتلال، يحقق من خلالها أهدافه الاستراتيجية وفي مقدمتها التوسع الاستيطاني في فلسطين، والتطبيع مع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية.
تغييب القضية الفلسطينية عن نقاشات القمة التي تُعقَد لأول مرة في فلسطين المحتلة برعاية الاحتلال هو نكوص واضح عن دعم القضية الفلسطينية، وتخلٍّ عن الشعب الفلسطيني ليواجه مصيره بنفسه، وتجاوز واضح لحقوقه التاريخية والقانونية، وتراجع عربي رسمي عن المبادرة العربية للسلام التي أقرتها الجامعة العربية في قمة بيروت عام 2002، والتي طالبت آنذاك بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م.
ربما ظنت حكومة الاحتلال أن عقد قمة النقب قد يمنح الجمهور الصهيوني دفعة معنوية، ويخفف قليلًا من حالة الاحباط المتفشية بين أفراده، نتيجة العملية الفدائية المؤلمة في بئر السبع والتي أدت قبل أيام إلى مقتل أربعة صهاينة على يد مقاوِم فلسطيني من النقب المحتل، ولكن يبدو أن الاحتلال قد حصد فشلًا ذريعًا في تحقيق هذا الهدف مع نجاح مقاوَمين فلسطينيَّين من أم الفحم بتنفيذ عملية أكثر إيلامًا مساء الأحد الماضي في مدينة الخضيرة المحتلة في العمق الصهيوني، ما يؤكد فشل الاحتلال في حماية جنوده ومستوطنيه من المقاومة الفلسطينية، فكيف يمكن له أن يوفر حماية لنظم استبدادية متهالكة في المنطقة العربيةّ!
ختامًا فإن اجتماع الأنظمة العربية التي باتت تؤمن بالديانة الإبراهيمية المعتمدة أمريكيًّا وصهيونيًّا شريعة جديدة للمنطقة العربية، وقبول بعض النظم العربية الاستبدادية تدشين تحالف سياسي وأمني واقتصادي مع كيان الاحتلال، هو انحراف واضح عن الدور العربي التاريخي، وهو نزوة سياسية خطأ لن تلبث أن تستفيق النظم العربية منها مع أول حدث بارز في المنطقة، فكيان الاحتلال الذي أقيم على الظلم والدماء والاضطهاد، الذي يعجز عن توفير الحماية لجنوده ومستوطنيه، لهو أعجز عن تحقيق الأمن والأمان في منطقة تعيش حالةً من الغضب والغليان الذي يسري بين شعوبها العربية المضطهدة.