في السياسة ثمة حقائق، وثمة أوهام. تكون الحقائق عادة مع الصدق، وتكون الأوهام دائمًا مع الكذب. فما حجم الصدق، وما حجم الكذب في لقاء النقب، والذي أسمته الدولة العبرية باللقاء الدولي؟ لقاء النقب في مستوطنة (سديه بوكير) حيث كان يقيم ابن غوريون مؤسس دولة الاحتلال يضم كل من وزير خارجية أمريكا و(إسرائيل) ومصر والإمارات والبحرين، والمغرب، وهؤلاء كانوا قد اجتمعوا معا قبل بضعة أيام في شرم الشيخ في سيناء بمشاركة الأردن، الذي يغيب حتى الآن عن لقاء النقب. لماذا أحدث هؤلاء لقاء في النقب، وكان بإمكانهم مواصلة اجتماعاتهم في شرم الشيخ؟
لست أدري هل نحن في فلسطين بحاجة للبحث عن الإجابة؟! نعم، الإجابة ممكنة بآلية التحليل، ولكن لسنا في حاجة لها، وهي غدا ستفصح عن نفسها بنفسها من خلال مخرجات اللقاء، والأهم من ذلك هل سيغير هذا اللقاء وجه الشرق الأوسط كما تزعم صحف عبرية، أم أنه لقاء كغيره مسكون بأوهام وأحلام غير قابلة للوجود في أرض الواقع؟!
قبل أن أبحث في مضمون اللقاء أود أن أقول إن دولة الاحتلال أخذت منه كل ما تريد بمجرد عقد اللقاء في النقب، وإن كانت قد حاولت عقده في القدس لأهداف معروفة. يقال إن اللقاء يبحث في تشكيل تكتل يستهدف الضغط على الإدارة الأمريكية للتعديل من سلوكها في الملف الإيراني، وفي العلاقة مع دول الخليج، على قاعدة أن المجتمعين ينظرون بقلق لانحراف سياسة الإدارة الأمريكية الخارجية، في التعامل مع مكونات المنطقة، وربما يرى المجتمعون أن الحرب في أوكرانيا تتيح لهم فرصة جيدة لمراجعة الإدارة الأمريكية من خلال ما سيسمعه منهم الوزير بلينكن.
يخطئ من يشخص اللقاء بأنه موجه ضد الإدارة الأمريكية، لسببين: الأول أن أمريكا حاضرة بوزير خارجيتها. والثاني أن هؤلاء لا يستطيعون معاداة أمريكا فيخسرون كثيرا. يقال إن الأولاد لا يستطيعون تغيير قناعات والدهم إذا كان هو مالك أمرهم ومطعمهم وحاميهم وحارسهم.
إذا كان اللقاء موجها لطلب تعديل في السياسة الخارجية الأمريكية في الملف الإيراني والحرس الثوري، فإن الإدارة الأمريكية والكونجرس يطالبون (إسرائيل) بموقف مؤيد لأمريكا من الحرب في أوكرانيا، ويرفضون موقف الحياد ومبرراته، وإذا كان الخليج يطلب أسلحة من أمريكا وموقفًا من التهديدات الإيرانية والحوثي، فإن أمريكا تطالبهم بتبني موقف أمريكا في الحرب الأوكرانية، وبزيادة ضخ النفط والغاز لتعويض غياب حصة روسيا في أوروبا.
إذا صح ما سبق فإن الأطراف تساند بعضها بعضا ليكون صوتها أقوى أمام الإدارة الأمريكية، ولكن هذا التساند سيبقى تساندا شكليا، لأنه لا روح ولا قاسم مشترك حقيقي يجمع بين الأطراف العربية (وإسرائيل). وإذا كان الطرف العربي يتقوى (بإسرائيل) في حين يطلب من أمريكا،
فـ (إسرائيل) لن تزيد الموقف العربي إلا خبالا، ولن تكون (إسرائيل) يوما دولة مخلصة للمطالب العربية، فهي لا تكاد تكون مخلصة لأمريكا حليفتها الرئيسة في العالم، وهي لم تكن مخلصة لرئيس أوكرانيا الذي يجتمع مع بينيت في الديانة.
(إسرائيل) تبحث عن مصالحها، وهي مصالح لا تتقاطع بشكل حقيقي مع مصالح الأطراف العربية البتة، وعليه يمكن القول بأن العرب في اللقاء يبحثون عن أوهام، ويجرون وراء سراب، والمتغطي بغربال (إسرائيل) عريان أبد الدهر. وأوسخ ما في اللقاء هو القفز عن القضية الفلسطينية.
(إسرائيل) حققت هدفا كبيرا لها، وهي به تدخل للعواصم العربية من خلال مقولة الشرق الأوسط الجديد، لذا هم سينفخون في لقاء النقب إعلاميا على أنه بداية تغير وجه الشرق الأوسط، والحقيقة ليست كذلك، فحلم الشرق الأوسط الجديد مات مع صاحب مشروعه شيمعون بيرس، والخائفون من إيران أو أمريكا لا يصنعون التاريخ ولا الحضارة.