فلسطين أون لاين

آخر الأخبار

الواقع والشرط اللازم لانتفاضة أوسع!

أحصى جيش الاحتلال الإسرائيلي أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021، في رصده لأعمال المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، أكثر من 5532 حادثة رشق حجارة، و1022 زجاجة مولوتوف، و61 هجوم إطلاق نار، و18 عملية طعن. وقد أخذت هذه العمليات تتصاعد في الشهرين الأولين من العام 2022، لتصل في شباط/ فبراير بحسب إحصاءات جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشاباك" إلى 171 عملاً في الضفة الغربية و15 عملاً في القدس، بينما كانت في الشهر الذي سبقه 116 عملاً في الضفة و25 عملاً في القدس. وهي أرقام أعلى مما كانت عليه في شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، مما يعني أن هذه الساحة، تمثّل ساحة المقاومة الفلسطينية المفتوحة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وعلى نحو متصاعد.

هذه الحالة التي نؤرخ لها بمرحلتين حاسمتين، الأولى في العام 2014 تأسيساً، وانتقالاً من مرحلة الانحسار الكفاحي بعد ما اصطلح عليه بالانقسام الفلسطيني (2007) للدخول في هبّة القدس عام 2015، والثانية مرحلة ما بعد أحداث أيار/ مايو 2021 تكريساً بـ"معركة سيف القدس"، ودفعاً بالحالة الكفاحية أكثر إلى الأمام، في مشهدية أعادت لحظياً التجديد للقضية الفلسطينية باجتماع جماهير الفلسطينيين، في جغرافياتهم المتعددة، على خيار المواجهة، وبما يفضي إلى الوعي بانكشاف العمق الإسرائيلي في مواجهة جدّيّة وشاملة، وإمكان الوحدة الفكرية والميدانية على قاعدة المواجهة، والانكشاف النهائي لمشروع التسوية ونخبته، والعمق الضمني للقضية الفلسطينية في الوجدان العربي بما يمكنه من تجاوز حملات التحييد والتشويه. وما بين المرحلتين سلسلة هبّات وحوادث ساهمت في الدفع نحو المراكمة والتكريس.

ثمة إشكالية في القدرة الفلسطينية، إعلامية وثقافية وسياسية، على التقاط هذه الحالة، وتعريفها التعريف الصحيح، ومنحها وزنها الحقيقي، وبما يقتضي كيفيات التعامل الصائب معها. إذ يتحفّز الإعلام الفلسطيني مع كل حادثة متجددة ليسأل عن بواعثها ومآلاتها، وكأنها جديدة بالمطلق في دلالاتها، مع أنها حلقة من سلسلة لم تنقطع منذ بضع سنوات، وذلك راجع إلى الانكسار الذهني للنماذج الكبرى، كالانتفاضات الشاملة، أو حروب المقاومة من غزة، دون أخذ ذلك العدد الضخم من أعمال المقاومة بعين الاعتبار، ووضعه في سياقه الموضوعي، الاجتماعي والسياسي والأمني، وهو ما حاولنا معالجته في مقالة سابقة بعنوان: "ضباب المواجهة في زمن الضفّة الغربية!".

لا يعني التوصيف الصحيح لهذه الحالة.. المبالغة في توقّع تحولاتها، بالرغم من المياه الكثيرة التي جرت أسفل جسر الفلسطينيين منذ نيسان/ أبريل العام الماضي، والسيولة القائمة في المنطقة والعالم منذ أكثر من عشر سنوات، ولكن ذلك يعني أن ما يوصف بالجمود السياسي، قد أخذ يسيل في هذه الحالة الكفاحية، وأن الانسداد التاريخي الذي ضرب مجرى الكفاح الفلسطيني من بعد ما اصطلح عليه بالانقسام الفلسطيني، قد أخذ يتزحزح، وإن كان ذلك ببطء ناجم عن تفوق الاحتلال الكاسح، وسياسات السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، وضعف الأطر التنظيمية من حيث الرؤية عموماً، والحضور في ساحة الضفة الغربية خصوصاً، وعدوانية سياسات أنظمة المرحلة الوسيطة في حقبة ما بعد الثورات العربية، وقد سميناها الوسيطة لكونها لن تكون النهائية بالنظر إلى حالة السيولة القائمة.

الأهم في أسباب البطء أن صراعاً من نوع القضية الفلسطينية بتعقيداتها الهائلة وظروف شعبها المعاندة لإرادته؛ لا بد وأن تشق مساراته طريقها في وقائع غير مواتية.

الوضع الراهن المركب، من مظاهر الجمود، ومن الانزياحات البطيئة الحاصلة في قلب هذا الجمود، بالإضافة إلى سلسلة الهبّات السابقة في السنوات الأخيرة، والتوقعات المتعدّدة من الفلسطينيين ومن الأوساط الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية حول احتمال تجدّد المواجهة على نحو أوسع في نيسان/ أبريل القادم لتزامن الأعياد اليهودية مع شهر رمضان، وسعي الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 2019 لتكريس اقتحام المسجد الأقصى أثناء المناسبات الإسلامية.. ذلك كله يعيد السؤال عن الانتفاضة الشاملة، وهو سؤال على الأقل يعيد طرح نفسه منذ هبّة العام 2015.

السؤال الذي ينبغي أن يطرح، هو سؤال معاكس، استفهامي، يبحث في الشروط الموضوعية للانتفاضة الواسعة الشاملة، بمعناها المستفاد من آخر انتفاضتين كرّستا تعريف الفلسطينيين للانتفاضة بوصفها حالة كفاحية، واسعة تشمل جغرافيا العام 1967 على الأقل، على نحو واحد وبفاعلية متقاربة، وتستوعب شرائح واسعة من الفلسطينيين، وتملك القدرة على تأطيرها، وتستمر سنوات إلى الأمام. (منذ الانتداب البريطاني لم يكن الفلسطينيون يهتمون كثيراً للاصطلاح، فيطلقون الثورة والانتفاضة على هبّات ساعات أو أيام، حتى استقرّ التصوّر عن نموذج الانتفاضة بالانتفاضة الأولى عام 1987).

الشرط الموضوعي الأهمّ في هذه الحالة هو وضع السلطة المحلية، ففي الانتفاضة الأولى سهّل انعدام وجود سلطة محلّية، اشتباك الفلسطينيين اليومي مع الاحتلال في قلب التجمعات السكانية التي وجدت فيها على نحو دائم مراكز شرطية وعسكرية للاحتلال، وهو الأمر الذي انتفى مع تأسيس السلطة الفلسطينية وإعادة الاحتلال انتشاره خارج مراكز تجمعات الفلسطينيين مع بقائه مسيطراً على الضفة الغربية بمعاني الاحتلال المباشرة، وأدوات الضبط والسيطرة الأمنية والعسكرية.

إعادة الانتشار، ووجود سلطة محلية، وتكون شبكات زبائنية وعصب اجتماعية مرتبطة بالسلطة، جعل فكرة الانتفاضة الشاملة بما هي عصيان مدني، أو بما هي طاقة حشد لجميع الشرائح الاجتماعية؛ غير متاحة، وهو ما كان يعني أن أيّ مواجهة شاملة بعدها ستكون مرهونة بخيارات السلطة المحلية، ثم بالممكنات التنظيمية.

ولذلك فإنّ انحياز قيادة السلطة في مرحلة ياسر عرفات لخيار المواجهة من بعد فشل مفاوضات كامب ديفد، سهّل تمدّد الهبّة الشعبية واستمرارها أسابيع للأمام، وبسبب إعادة الانتشار تحديداً، انتقلت الهبّة إلى الانتفاضة المسلحة، لعدم القدرة على الزحف اليومي من مراكز المدن إلى نقاط الاشتباك ليسقط الفلسطينيون العزّل بالعشرات، وانتفاء الجدوى من ذلك، فكان شرط الممكنات التنظيمية ضروريّاً لهذا التحوّل وهو ما حصل حينما نضج هذا الشرط، وهذا يعني أن قدرة الانتفاضة الثانية على التأطير والاستثمار الأوسع في الشرائح الاجتماعية كانت أقلّ مما كانت عليه الانتفاضة الأولى، بسبب الطابع المسلح المرتكز إلى الجهوزية التنظيمية.

إذن هناك شرطان لتطور أيّ هبّة إلى انتفاضة أشمل وأوسع، الأوّل وضع السلطة المحلية، وهو الآن غير متعاطف -في أفضل التعبيرات- مع فكرة المواجهة، بالرغم من اهتزاز هذا الوضع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، والثاني توفّر الممكنات التنظيمية، وهي ما تزال ضعيفة، وغير قادرة على التقاط فرصة الهبّة لتأطيرها وتطويرها ومدّها إلى الأمام، وإن كان ثمّة علاقة جدلية في التاريخ الفلسطيني إزاء هذه المسألة، فتوسع الهبّة تلقائياً في حال خروجها عن السيطرة، أو تلقّيها عوامل دفع ذاتية غير متوقعة، قد توفّر فرصة مناسبة للتنظيمات لإعادة بناء نفسها، ثم تقوم التنظيمات بدورها بتطوير الهبّة.

هذا التوصيف بالتأكيد يعود بنا إلى وجود سلطتين برؤيتين مختلفتين في جغرافيتين منفصلتين بظروف موضوعية متباينة، لكن الواقع تجاوز لحظة الانقسام. تجلى هذا التجاوز في موقف الجماهير في "معركة سيف القدس"، ولم يعد "الانقسام" أداة تحليلية مناسبة لفهم الواقع وتفسيره، بقدر ما صار أداة هروبية للقفز عن التحميل الصحيح للمسؤوليات، لا سيما من بعد إلغاء الانتخابات العامة التي كان يفترض أن تبدأ في أيار/ مايو 2021 وتنتهي في آب/ أغسطس من العام نفسه. ومن ثم فالعقبة الموضوعية الأكبر التي تسحب من الفلسطينيين الشرط اللازم لتطوير هبّاتهم هي سياسات السلطة بالضفة، لا الانقسام من حيث هو.

هذه قراءة للمعطيات في الواقع كما هي، وبالاستفادة من التاريخ الكفاحي للفلسطينيين، بمعنى أنها تعطي الحالة الكفاحية الجارية وزنها المقدّر دون أن تبني عليها توقّعات أضخم ما تزال مفتقرة للشرط الموضوعي اللازم، أمّا المفاجآت فهي دائماً محتملة، لكن ما نملكه لنراه ونحلله ونبني عليه هو الواقع.