ما يجري اليوم من حرب محتدمة بين روسيا وأوكرانيا، كان نتيجة طبيعية لتنكر الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا للوعود التي قُطعت لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بأن حلف شمال الأطلسي لن يتمدد في عواصم أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه، وبالتالي أن لا تشكل تهديدا إضافيا لروسيا.
ومعلوم أن أكثر من 16 بلدا وكيانا كانت ملحقة بالاتحاد السوفيتي السابق وتشكل سياجا أمنيا كبيرا له في حلف وارسو، في مواجهة أوروبا الغربية في حينه هي والولايات المتحدة الأمريكية واللتان مع مكونات أخرى تشكل حلف النيتو.
لم تحترم واشنطن أو أوروبا تلك العهود، وقامت بعد بضع سنين، وخطوة بعد أخرى، باستدراج دول أوروبا الشرقية واحدة تلو الأخرى لتكون في كنف حلف النيتو وينتشر على أراضيها صواريخ بالستية استراتيجية مدمرة إلى جانب قواعد عسكرية تهدد مدن ومصالح روسيا وأمنها واستقرارها.
واستمرت استفزازات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب اضطرادا وقامت إلى جانب ضم معظم تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي وبالطبع لحلف شمال الأطلسي بالتمدد نحو تشيكيا وبولندا ودول البلطيق، كما تتابعت الاستفزازات بالتلويح بقرب التحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي وإلى النيتو الذي اعتبرته موسكو خطرا داهما حقيقيا واستفزازا يدق ناقوس الخطر وتهديدا مباشرًا للأمن القومي وللمصالح الإستراتيجية لها.
لقد نبهت روسيا لضرورة التزام اتفاقية مينسك وعدم اللعب بالنار، وأنها لن تدع هذا يمر بأي حال!
وكانت روسيا قد طالبت بضرورة التوافق على نظرية تؤسس لأمن غير قابل للتجزئة يضمن أمن روسيا وأوروبا على قدم المساواة وعلى حد سواء، وهي تتعهد بعدم الاعتداء على أوكرانيا.
ولكن واشنطن لم تتوقف لحظة عن خططها الإستراتيجية لتمهيد الطريق لوجستيا وتحت الطاولة بنية إلحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي وإلى النيتو الذي بدا جليا، وقد أنذرت روسيا واشنطن بضرورة وقفه فورا دون جدوى!
ولكن ما يجري في عالم اليوم ليس كما كان يجري في ذاك بالأمس إبان أزمة الصواريخ النووية الروسية في كوبا عام 1962، فقد كان الرئيسان خوربوتشوف السوفيتي وجون كينيدي الأمريكي ليسا كبوتين وبايدن، فقد كانا يتمتعان بالحكنة والحكمة ويقدران أنهما قطبان يتربعان على عرش الكون، وأن هناك ضرورة للحلول الوسط، وأن أي حرب عالمية ثالثة لن يكون فيها إلا خاسر وآخر خاسر أيضا، في الوقت الذي يعتقد فيه بايدن اليوم بأن الاتحاد السوفيتي قد ذهب ولن يعود، وإن عاد فلن يكون قريبا دون أن يدرك أن روسيا قوية بل وتتحرك ومعها ما تحسبه دول الدنيا الكبرى -عدا واشنطن- أن هناك أيضا قطبا ثالثا ومتحديا كي يكون حتى الثاني وهي الصين.
في الوقت ذاته، يبدو أن روسيا ماضية في طريقها وتعتبره تحديا وجوديا وخططها تهدف لتحطيم إمكانات أوكرانيا العسكرية بأقل الخسائر في أرواح المدنيين وإنهاء حلم أمريكا والغرب عموما. وتهدف واشنطن أن تكون هذه الحرب الروسية الأوكرانية ليس فقط لتركيع موسكو بل وإذلالها، كما جرى مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وفرض توقيع "صلح فرساي"، الذي كان في حقيقة الأمر صك إذعان ألمانيا لشروط المنتصر وفرض التنازل عن إقليمي الألزاس واللورين ونظام مُذل للعقوبات والتعويضات بل وتوريد كميات هائلة من الفحم للدول المنتصرة اعتقادا منها أن ألمانيا المهزومة المبعثرة لن تنهض من كبوتها، وهي التي تعلي الصوت الآن في وجه واشنطن بأنها لن تعزل أو تحاصر موسكو!
كما أن صك إذلال إذعان فرساي هو الذي أنضج التربة الخصبة للأيديولوجيا النازية الآرية التي جلبت هتلر ليركب موجتها نحو الحرب العالمية الثانية التي كلفت العالم ملايين الأرواح البشرية ودمرت الحضارة الإنسانية وخرابا لم تشهده حتى اللحظة.
ولا تعلم الغطرسة الغربية سيدة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين كلما كانت مصالحها على المحك، بأن بوتين يرث بلدا قارة لم يزل عاتي القوة ويمتلك ترسانة نووية عسكرية ومصادر طبيعية ضخمة وقدرات صناعية هائلة تلعب منذ زمن دورا محوريا مقررا في السياسة الكونية وتشكل توازنا للرعب في إدارة الصراعات العالمية وتحد من تغول طرف على آخر وما يقدر يأخذه في طريقه من دول العالم المستضعفة، فكيف إذا تحالفت مع الصين وهي كذلك بوزنها الاقتصادي والديموغرافي الطاغي، وعليه فإن أمريكا اليوم والقارة الأوروبية العجوز -وكما يرى كثر من المراقبين- لا يمكن لهم فرض شروطهم في الحرب الباردة الجارية، رغم سخونة بعض جبهاتها، ولكن روسيا من جهة والغرب موحدا من جهة أخرى سيستمران في اعتبار بعضهما البعض أعداء ونماذج تحتذى في ذات الوقت!
فالغرب كان ولم يزل يرى في روسيا عدوا إبان الزمن القيصري والسوفيتي ووصوله إلى الندية قطبا مقابلا، وروسيا ترى في أمريكا والغرب تحديا كعدو في صراعات النفوذ على الدنيا وفي كونها أنموذجا حضاريا حداثيا تكنولوجيا.
ولكن روسيا التي وجدت نفسها تتقدم عدوا نحو أوكرانيا تخشى اليوم أن لا تتحول كييف إلى رمال متحركة تغرق فيها نحو حرب استنزاف كما سقطت في وحول أفغانستان من قبل وكما ابتلت واشنطن أيضا لعقدين وروسيا التي تعلم يقينا أيضا أن أوكرانيا تشكل خاصرة رخوة لها وتدرك حساسية موقعها الجيوسياسي، في الوقت الذي تعلم فيه واشنطن أيضا أن أوكرانيا هي نقطة ضعف الدب الروسي المتوثب غربا وتحاول منذ زمن اختراقها.
لهذا لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن تحريض أوكرانيا ضد روسيا وإثارة النعرات العنصرية القومية المعادية لروسيا والحقن الهادئ لنار الفتنة تحت يافطات الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان والدعم العسكري والاقتصادي وترتيبات الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف النيتو إلى الحد الذي أصبحت فيه نخبا متنفذة تتقول وهي السلافية كالروس تماما بأنها اكتشفت أنها في الأصل آرية المنشأ والمآل، وهم الذين تنعتهم روسيا بالنازيين الجدد!
إن ما يجري في أوكرانيا هو تحد جدي وخطير للقيصر الروسي الجديد بوتين يشكل الخروج منه فرض اعتراف الغرب بموسكو قطبا جيوإستراتيجيا سياسيا لا يشق له غبار ولا بد للغرب أيضا أن يبدي استعدادا كذلك للاعتراف بالصين ندا ثالثا لا محالة.
وهنا سيسيل حبر مثير وكثير، وتساؤلات لا حصر لها!
فهل واشنطن تقدر، وهي صاحبة التاريخ الأسود في ازدواجية المعايير وسفك دماء الشعوب بدءا من ملايين سكان البلاد الأصليين الذين أسموهم هنودا حمرا ثم أبادوهم، مرورا بفلاحي أفغانستان وليس انتهاء بأطفال اليمن، على أنها تملك صلاحية ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وحلف النيتو لتحقيق أهداف نبيلة ولإنقاذ السلام العالمي؟
وكيف سيكون عالم الغد، بعد أن تضع الحرب الجارية أوزارها، وكم هو عدد أقطابه؟
وهل ستتدحرج كرة اللهب لتأخذنا إلى حرب عالمية ثالثة ضروس لا تبقي ولا تذر؟ ومن يعِش يرَ!