صحيح أن دولة الاحتلال ليست سعيدة بالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، على اعتبار أن لها مصالح مع طرفيها، وهو ما عبر عنه الحراك الدبلوماسي الإسرائيلي بين موسكو وكييف، ورغبتها التي لم تخطئها العين بوضع حد لهذه الحرب قبيل وصولها إلى خط اللا رجعة.
في الوقت ذاته دأب الاحتلال جيدًا على استخلاص "المنحة من أي محنة" يواجهها، وتحويل "الخطر إلى فرصة"، وهو ما اتضح جليًّا في استنفار الجهات الإسرائيلية ذات العلاقة بموضوع الهجرات اليهودية، لفتح أبواب فلسطين المحتلة أمام المهاجرين اليهود الأوكرانيين.
لعلها ليست المرة الأولى التي يستغل فيها الاحتلال أزمات إقليمية ودولية لتعزيز الهجرات اليهودية، ومحاولة زيادة أعداد اليهود المحتلين داخل فلسطين المحتلة، ما يعيد للأذهان الهجرات اليهودية في بدايات إنشاء المشروع الصهيوني، وما قبله بسنوات، وبداية إنشاء الييشوف اليهودي.
يأتي هذا الاستنفار الإسرائيلي من الوكالة اليهودية ووزارة الهجرة والاستيعاب لتوظيف الحرب الأوكرانية في مجاراة التحول العميق الذي قد يصيب البنية الديموغرافية، والمخاوف الإسرائيلية، الحقيقية أو المبالغ فيها، من تراجع الأغلبية اليهودية في السنوات القادمة لمصلحة الفلسطينيين، رغم السياسات الاحتلالية التي لا تتوقف لإبقاء الكفة الديموغرافية راجحة لمصلحة اليهود.
تعيدنا هذه التطورات إلى عقود سابقة استغلت فيها الحركة الصهيونية تطورات عالمية وإقليمية، ومنها مثلًا ما شهدته أوروبا عشية ظهور الحركة النازية في ألمانيا، والمزاعم عن تزايد اضطهاد اليهود فيها، بل إن هناك ما كشفه بعض الكتاب اليهود من أمثال (ألفرد ليلينتال) بالحديث أن الصهاينة اتصلوا بالنازيين، وشجعوهم على تلك السياسة، حتى يسوغوا إقامة الدولة، مع بعض التحفظ على ما قد يرد في هذا السياق، لكنه استدلال يمكن الاستفادة منه.
في تطور آخر أدت الأزمة الاقتصادية التي شهدتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين التي هيأت للحرب العالمية الثانية إلى هجرة كثير من اليهود إلى فلسطين، حتى إن 90% منهم شملوا عددًا كبيرًا من أصحاب المهن الحرة والعمال المهرة المختصين، استعدادًا من الصهيونية لوضع أسس إعلان دولتهم على أنقاض فلسطين المحتلة، وهو ما يسعى له الاحتلال اليوم بالاستفادة من "الكفاءات" المهنية التي يمتاز بها المهاجرون اليهود الأوكرانيون.
مما سبق يتضح جليًّا أن موجات الهجرة اليهودية، ومنها الأوكرانية المتوقعة، وفق تقدير الجهات الاحتلالية ذات الاختصاص؛ تساهم مباشرة في التغيير القسري للميزان الديموغرافي لمصلحة اليهود على أرض فلسطين المحتلة، كما ساهمت سابقًا في تغيير جغرافي/ سياسي بإقامة دولة الاحتلال في 1948، ثم سيطرتها على ما تبقى من فلسطين وأراضٍ عربية أخرى عام 1967.