تشكل العلاقات الأمريكية / الصهيونية حجر الزاوية في ضمان استمرار ومنعة هذا الكيان الذي تمنحه واشنطن كل أسباب القوة بل وتحقنه بالحياة، وهي علاقة ذات بعد تاريخي واستراتيجي عميق، ومقومات هذا النسيج متشابكة ومعقدة حتى أضحت بناءً مركزيًا يؤسس حجر الرحى للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط.
وتعود جذور هذه العلاقة إلى تأييد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون "1913-1921" لوعد بلفور في رسالة سرية بعث بها إلى وزارة الدفاع البريطانية، تتضمن موافقة الكونغرس الأمريكي على مشروع التصريح لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم موافقة الكونغرس على الانتداب على فلسطين عام 1922.
وقد تجذرت العلاقة بين الطرفين عندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد الجيش النازي الألماني بزعامة أدولف هتلر، وأصبح لها مصالح حيوية في منطقة الشرق الأوسط، واعتقدت خلالها واشنطن أن الصهيونية العالمية يمكن أن تسهم في إنجازها وحمايتها بعد إقامة الكيان اليهودي في فلسطين، ولم تزل هذه العلاقة تزداد قوة على كل الصُعُد السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والدبلوماسية وذلك لدى إدارة الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء.
وليس دقيقًا على أي حال الدعوى بأن الحزب الجمهوري هو أقرب وأكثر دعمًا لدولة العدو، بل على العكس تمامًا فإن إدارات الحزب الديمقراطي كانت دومًا تقدم إسنادًا يعتد به. إبان المنعطفات التاريخية التي عصفت بهذا الكيان العنصري خلال العقود السبعة من عمره، كما أن الأغلبية العظمى من اليهود الأمريكيين يصوتون عادة للحزب الديمقراطي وهذا ما أكدته الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أوصلت الرئيس الحالي جو بايدن كي يعتلي سدة الحكم في البيت الأبيض في واشنطن.
وتتنافس الإدارات الأمريكية للحزبين في اعتبار "تل أبيب" شريكًا يحظى بالثقة، كما تعمل دولة الاحتلال على ترسيخ علاقتها مع واشنطن كأقوى حليف استراتيجي لها، تستند إليه كضامن أكيد يدرأ عنها كيد أعدائها ويحمي خروجها على كل المعايير والقوانين الدولية في عدواناتها وتوسعها وجرائمها ضد الإنسانية في فلسطين المحتلة والدول العربية التي تعرضت لهجمات وقرصنة جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، وكانت مسرحًا لعديد المجازر والعمليات الإرهابية.
صحيح أن بريطانيا "ألكانت" عظمى، هي التي أرست معالم كيان دولة العدو العنصرية ونفخت فيه كل التفاصيل حتى أضحى وليدًا يدب على الأرض حتى امتلاك القنبلة النووية، ولكن واشنطن عادت في منتصف الخمسينات من القرن الماضي تتولى زمام أمور الكيان الاستيطاني الغاصب في فلسطين المحتلة وتحديدًا إبان وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حين اشتركت كلًا من بريطانيا وفرنسا ودولة العدو في شن عدوانها على مصر بعد قرار تأميم قناة السويس وقد تدخلت واشنطن وموسكو إبان حقبة الاتحاد السوفيتي وفرضا معا خروج قوات القارة الأوروبية العجوز من مصر ومن تقرير مصائر منطقة الشرق الأوسط وتولت الولايات المتحدة منذ ذاك التاريخ السيطرة وإدارة الصراع مع الاتحاد السوفيتي لتبدأ الحرب الباردة بين العملاقين الدوليين لعقود تلت. اما وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر والسياسي المخضرم وهو اليهودي،
فقد وصف الوضع في البيت الأبيض بأنه " صراع بين اليهود وغير اليهود، وكلاهما يقبع في جيب رجل واحد هو رئيس حكومة تل أبيب".
ولا شك أن هناك جذورًا ثقافية تجمع واشنطن "وتل أبيب"، فهما كيانان أقامهما مستوطنون أغراب قدموا إلى أرض "أغيار" فاحتلوها بالقوة والمجازر وارتكبوا أفظع جرائم الحروب التي أبادت وهجرت الملايين، وكانت دعاوى الطرفين واحدة وهي: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"! وبغطاء أيديولوجي ديني يجمعهما أيضا حيث نشأت الصهيونية المسيحية التي تشكل عنصر التقاء بين الحركة الصهيونية وبين الصهيونية المسيحية لجمع يهود العالم في فلسطين وتعجيلًا لقدوم المسيح!
كما أن ما يوثق العلائق بين واشنطن والكيان اللقيط في "تل أبيب"، هو ما يقدره صناع القرار في العاصمة الأمريكية بأن النظام العربي الرسمي يتقافز على رمال متحركة ولا يمكن الركون إليه على المدى البعيد، وأن العلاقة معه عابرة استنادًا إلى الخبرات المُرة خلال العقود الماضية كما جرى مع مصر الناصرية بعد نظام الحكم الملكي وكذلك ما جرى بعد ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي في العراق وسوريا وما يجري فيهما اليوم، كذلك في الجزائر منذ الاستقلال عام 1962 وفي اليمن والتحولات الدرامية في السودان وموجة الثورات الشعبية التي امتدت من تونس ثم مصر ثم ليبيا واليمن مرة أخرى وما هو متوقع في قادم الأيام والتربة تمور على صفيح ساخن.
ولكن ما يلحظه الجميع من تراجع لوهج تسونامي التطبيع والمآزق التي تواجه ما يسمى بـ "التحالف العربي" على اليمن السعيد بأشقائه العرب يدفع الولايات المتحدة للتدقيق مليًا في حساباتها للمرة الألف وهي تسير على حبل مشدود وقد أدماها العثار إبان ماراثون أفغانستان وهروبها المذل من كابول وبيعها لحلفائها هناك لصالح أعداء الأمس في حركة طالبان.
ويقول العارفون، إنه لا يوجد في العلاقات الدولية السائدة منذ الأمس وحتى اليوم صداقات دائمة بل إنها تبنى غالبا على المصالح الدائمة وكل التحولات الصادمة التي وقعت كانت وستبقى إلى حين تسير على هدي ذلك.
وها نحن نعايش تطورات الحرب الروسية الأوكرانية وهي تمر أمامنا بكل صخبها وضحاياها لليوم السابع وقد أوقفت الدنيا على قدم واحدة منذرة بمتغيرات شتى بأننا مقدمون على عالم ليس ثنائي القطب، بل ثلاثي أو رباعي الأقطاب، فمن القطبية الواحدة لواشنطن إلى ثنائية بدخول موسكو وثلاثي بولوج الصين من بوابته العريضة وهي التي تستعد بدورها لاستعادة جزيرتها الضالة تايوان وبالقوة، ولن تنتظر طويلًا هذه المرة كما فعلت مع هونغ كونغ!
ولقد بات مدركًا منذ عقد من الزمان أن الولايات المتحدة بدأت في فقدان زمام المبادرة على المسرح الدولي حين ضمت روسيا شبه حزيرة القرم، ثم تحولات كازاختسان واليوم تترك أوكرانيا لمصيرها رغم فرقعات إمداد كييف بالأسلحة "شديدة التدمير"! أسفار التاريخ الاستعماري تقول -للأسف- إن القوة تتفوق على الحق، وإن المصالح تأتي أولًا، وقد ركلت واشنطن من قبل حليفها الأقوى والأهم في منطقة الشرق الأوسط شاه إيران عام 1979 حين انتصرت ثورة الشعب الإيراني وأصبح الخميني قائد البلاد، حتى إن الولايات المتحدة، وكل دول أوروبا لم تسمح لطائرة الإمبراطور الفار من النزول في أي من مطاراتها للتزود بالوقود، ليصل في نهاية رحلة التيه إلى مصر السادات فيمضي ايامه الأخيرة ليموت غير مأسوف عليه من أحد.
وهذا ما فعلته واشنطن مع السادات ومبارك، وكثر من قادة آسيا وأفريقيا حتى أميركا اللاتينية. ومنذ عقد ونصف ونيف ودولة العدو أيضًا تعيش في زمن تراجع يزداد تسارعًا وهي اليوم على مفترق طرق وقد بدأ العد التنازلي الوجودي كما عبر عنه كثرٌ من ساستها وكتابها وجنرالاتها، كما أن مقاومة الشعب الفلسطيني تزداد مع مرور كل عام شبابًا وتأثيرًا وتصنع المعجزات، بل وأضحت دولة العدو عبئًا على حلفائها وقد بدأت تفقد الكثير من روافع دورها الوظيفي الذي فُبركت لإنفاذه حين تأسست في نهايات الأربعينات من القرن الماضي.
طبول الحرب الروسية الأوكرانية تدق وتعصف بكثير من بنى هياكل النظام الدولي الراهن وهذا سيحجم بتداعياته حلفاء واشنطن في المنطقة وسيمنح محور المقاومة وعلى استقامة امتداداته هوامش جديدة للمناورة والفعل، وستكون بداية واعدة جديدة للمزيد من مراكمة نقاط القوة، وبالأمس قال الجنرال احتياط في جيش العدو اسحق بريك ، على " دولة الاحتلال الاعتماد على نفسها "، والسؤال اليوم هل ستأتي اللحظة التي تقاتل فيها " تل أبيب " وحدها دون فيض الاسناد الغربي اللامتناهي، هذه حقيقة ستحدث حتمًا حين تصبح مصالح الولايات المتحدة تحت التهديد الفعلي والمباشر، هذا ممكن وواقعي وبشائره بدأت وستأتي أُكلها عن قريب إن شاء الله.