ينعقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، أخيرًا، بعد تعطيل تجاوز ثلاث سنوات، فقد كانت آخر دوراته السابقة في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وذلك بخلاف اللائحة الداخلية للمجلس التي تنصّ على عقد دورة عادية كلّ ثلاثة شهور، بوصفه مؤسسة وسيطة بين المجلس الوطني وبين اللجنة التنفيذية، وهو الأمر الذي يعني تعطيلًا فعليًّا للمنظمة بعدما حلّت مكانها السلطة الفلسطينية، بما لذلك من دلالات هائلة على المسار السياسي، بالانتقال من مشروع التحرير، إلى مشروع السلطة المسقوفة بالاحتلال، ثمّ ما لذلك من دلالات على شرط وجود السلطة واستمرارها، ولا سيما مع انتهاء مشروع التسوية، وانسداد الآفاق أمام السلطة للتحوّل إلى وضعية سياسية أرقى، ومن ثمّ، وفي صيرورة تبدو أشبه بالحتمية، لا يمكن توقع معطى سياسيّ استثنائيّ على المستوى الوطني، لا من أهداف عقد المجلس المركزي ونتائجه، ولا من خيارات قيادة المنظمة.
وهذا ما يعني أن أسباب عقد المجلس المركزي بعد هذا التعطيل الطويل فئويّة، متعلّقة بترتيبات المشهد الداخلي، على مستوى فتح والسلطة. فالمجلس لم ينعقد إلا بعدما حسمت فتح خلافاتها حول الأسماء التي سيجري تصعيدها منها للجنة التنفيذية والمجلس الوطني. وبما أنّ الانتخابات ملغاة، وهي النافذة الوحيدة لمنح الشرعية لترتيبات السلطة وقيادتها، فإنّه لا بد من استدعاء منظمة التحرير للتظلّل بشرعيتها، بوصفها المؤسسة التاريخية الممثّلة للفلسطينيين، وبكونها المنشئة للسلطة، وهو ما يذكّر باجتماع المجلس المركزي في كانون الأول/ ديسمبر 2009 لتمديد ولاية رئيس السلطة والمجلس التشريعي، بدلًا من اتفاق وطني أو عقد انتخابات عامّة. فالمنظمة، والحالة هذه، مختزلة في هذه الوظيفة، وهي استدعاء الشرعية من تاريخها ووصفها، مع تعطيلها فعليًّا لصالح السلطة الفلسطينية.
قبل تأسيس السلطة كانت منظمة التحرير هي المؤسسة الفلسطينية الأولى، لكنّها كانت إطارًا رافعًا لنخبة فلسطينية أكثر مما كانت مؤسسة جامعة لها قيادة، ولذلك كانت توصف قيادتها من المعارضة داخل المنظمة بـ"القيادة المتنفّذة"، وحينئذ يمكن النظر إلى تواريخ انعقاد المجلس المركزي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ قبل تأسيس السلطة، وملاحظة عدم الالتزام بلائحته الداخلية، وندرة دوراته، وكذلك من بعد تأسيس السلطة، وقبل منافسة حماس لفتح على قيادة السلطة، وتعطيله أحيانًا لأكثر من ست سنوات (كما في دورة العام 1999 التي جاءت بعد دورة العام 1993!).
كما أنّ أيًا من قرارات المجلس المركزي، التي يمكن أن تكون محلّ إجماع وطني، كقرار وقف التنسيق الأمني الذي كان في آذار/ مارس 2015، يجري العمل بخلافها تمامًا، وهو ما يعني أنّه جرى تحوير منظمة التحرير، لتضيق على مقاس نخبة متنفّذة باتت هي نخبة السلطة لاحقًا، الأمر الذي يطرح سؤالًا على مجمل الحركة الوطنية عن مسؤوليتها إزاء هذه الحالة، إذ يسهل تحميل "القيادة المتنفّذة" المسؤولية، لكن ما هي الخيارات الصحيحة أمام معارضي هذه السياسات؟
دلالة هذه السياسات على الواقع ونتائجها على المرحلة الجارية، أضخم وأخطر من وصف الانحدار السياسي، وهو انحدار مصحوب بأزمات اقتصادية واجتماعية فادحة، وغير مسبوقة. وبما أنّ "القيادة المتنفّذة" لن تقيم لذلك وزنًا، ما دامت السلطة هدفًا بلا أفق سياسي، وما دامت الانتخابات معطّلة، والمصالحة الوطنية مشروطة بالشرط الإسرائيلي، فإنّ سؤال الواجب العمليّ هو المطروح على بقية القوى الوطنية، والتي كان يمكنها منذ إلغاء الانتخابات نيسان/ إبريل الماضي، ثم من بعد معركة "سيف القدس"، أن تشرع في الترتيب لجبهة وطنية توحّد موقفها، وتنظم خطواتها، وتظهر حجمها، مقابل سياسات قيادة السلطة.
والآن ومع المقاطعة الواسعة للمجلس المركزي من القوى الوطنية، سواء كانت في المنظمة أم خارجها، يمكن الدعوة لاجتماع لهذه القوى، بل وتوسيع الدعوة، لمناقشة هذه المجريات، وبما قد يفضي عنه الترتيب لتلك الجبهة ببرنامج وخطاب واضحين. ويمكن لهذه الجبهة استيعاب العديد من الهيئات الفلسطينية الشعبية المنبثّة في العالم، ما سيعطيها المزيد من الثقل.
قيادة السلطة بدورها ستمضي في طريقها، ومن المرجّح أن تُستدعى منظمة التحرير لشرعنة أي ترتيبات متعلّقة بالسلطة، مما سيكرّس واقعًا يفوق في سوداويّته كل ما سبق. ومثل هذا لا يواجه ببيانات التنديد ومجرّد المقاطعة، ولا بإعادة تدوير مقترحات المصالحة، وإنما بخطوات عملية جريئة وشجاعة ومخلصة.