مع هيمنة النّفعيّة الماديّة على الحياة العامّة تزداد الأسئلة عن الغاية النّفعيّة الماديّة من العبادات والشّعائر، وجزء من هذه الأسئلة يتوجّه بصيغ استنكارية متعددة إلى مدى انتفاع الله (تعالى) بعباداتنا،
وإذا كان الله (تعالى) غنيًّا عن عباداتنا ولا يحتاج إليها، أفلا تغدو هذه العبادات محض عبث لا طائل منه؟
في أوّل آيةٍ تطالعك في سورة الفاتحة بعد البسملة وصف الله (تعالى) ذاته بأنّه "ربّ العالمين"، ومعنى الربّ هو المربّي والمصلح والمدبّر لشؤون من يربّيهم.
ولو أنّ الله (تعالى) خلق البشر ثمّ تركهم دون أن يشرع لهم ما يربّيهم ويصلح شأنهم لكان خلقه لهم عبثًا لا يليق بإله كامل كمالًا مطلقًا، وتشريع الله (تعالى) لعباده ما يربّيهم ويصلح شأنهم هو نوعٌ من تحقيق احتياجهم هم لا احتياجه هو (جلّ وعلا).
تخيّل أنّ أبًا أو أمًّا في البيت يأمران أبناءهما في البيت بأوامر ويكلّفانهم بتكليفاتٍ لأجل تربيتهم وإصلاح شأنهم وتعويدهم الفضائل وتنشئتهم على الخير؛ فهل يقول قائل: إنّ الأب والأم يقومان بهذه الأوامر وهذه التّكليفات لأنّهما محتاجان إليها؟!
ولله المثل الأعلى؛ فإنّ التكليفات الشّعائريّة من صلاة وصيام وزكاة وحجّ وغيرها تنطوي على تربية من الله تعالى لخلقه الذين خلقهم فلم يتركهم سدى، يحتاجون إليها هم في معاشهم ومعادهم ولا يحتاج إليها هو تعالى.
المنطق التّكليفي ومنهجيّة التّعامل مع القوانين
الله تعالى خلق الخلق جميعًا ووضع قوانين لمخلوقاته من البشر وسائر مخلوقاته في الكون كلّه، وهذه القوانين تنقسم إلى قسمين: قسم لا اختيار للبشر فيه وهم يطبّقونه بغير اختيارٍ منهم، وقسم آخر يطبّقونه باختيارهم.
من أمثلة القسم الذي لا يتدخّل البشر في تطبيقه: قوانين الكون، وساعات اليوم، وأيّام السّنة، وحركة الأفلاك والكواكب، ونظام الشّروق والغروب، وغير ذلك.
ومن القوانين التي جعل الله تعالى للبشر الحريّة في تطبيقها: الأحكام الشرعيّة التكليفيّة، ومنها العبادات ومقاديرها وعدد الرّكعات وعدد أيّام الصّيام وساعاته.
وهذا يقتضي التّعامل بسياق واحد مع جميع القوانين التي تصدر عن إلهٍ وخالق واحد، فعندما نعاين حكمة الله تعالى المطلقة في قوانين الكون التي لا نستطيع التّدخل فيها وفي سيرها ونوقن بها؛ فلا بدّ أن نوقن بحكمة الله تعالى في القوانين التي فرضها وجعل لنا حريّة الاختيار في تطبيقها، ومنها العبادات الشّعائريّة؛ المنطق يفرض هذا.
وقد كلّف الخالق عباده بالتّفكر في قوانين الكون التي لا يدَ لهم فيها ولا يستطيعون التدخّل في تطبيقها، وكلّفهم أيضًا بأداء العبادات التي أوكل لهم حريّة القيام بها من عدمه، وهذا المنطق التّكليفي قائمٌ على حيثيّة أنّ الله تعالى يأمر خلقه بمقتضى ألوهيّته، والعباد ينفّذون التكليفات بمقتضى العبوديّة.
وكما أنّ المنطق التكليفيّ في التفكّر بالقوانين الكونيّة التي لا يتدخّل الإنسان في تطبيقها لا يعني عند النّاس أيّ معنى من معاني احتياج الخالق لهذا التكليف؛ المنطق التّكليفي نفسه يفرض أن التّكليف بالعبادات الشّعائريّة أيضًا غير قائمٍ على أيّ معنى من معاني احتياج الخالق تعالى إلى خلقه.
طاقةٌ مفتوحةٌ للشّكر
الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، وكرّمه على الخلائق كلّها بالعقل والحريّة، وسخّر له الكون لخدمته؛ يحتاج إلى شكر الخالق على ما أنعم به عليه، وفي المنطق البشريّ إن الشّكر هو حاجةٌ تبادليّة للشّاكر والمشكور، غير أنّه في التّعامل مع الله تعالى هو حاجةٌ للشّاكر إذ بيّن ربّنا تبارك وتعالى أنّ عوائد الشّكر تعود على العبد الشّاكر، كما في سورة إبراهيم: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ".
غني عن عباده
ولما كنا نؤمن بأنّ الله تعالى هو الذي خلقنا، وهو الذي شرع لنا التّكليفات، فلا بدّ أن نؤمن أيضًا بما يخبرنا به عن هذه التّكليفات ومدى حاجته إليها وانتفاعه بها، إن كان ذلك موجودًا بالفعل.
ولكنّ ربّنا تبارك وتعالى قد أخبرنا في مواضع كثيرة من كتابه الكريم بأنّنا نحن المحتاجون إلى هذه العبادات وهو الغنيّ عنها، وأنّ النّفع من القيام بها يعود على المكلّف الذي قام بها ونفّذها لا على من شرعها وأمر بها، وهو الله جلّ في علاه.
ففي سورة النّمل يقول الله (تعالى): "وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ"؛ فهذه الآيات واضحةٌ في إخبار الله تعالى عباده بأنّه غنيّ عن أفعالهم، وأنّ ما يقومون به تعود منافعه عليهم في الدّنيا والآخرة.