ما عايشناه من هبة فلسطينية في النقب المحتل خلال الآونة الأخيرة رفضًا لمخططات تهجير أهالي النقب من قراهم وبلداتهم الفلسطينية بذريعة تشجير الأرض وزراعة الغابات وما نتج عنه من مواجهات واعتقال أكثر من أربعين فلسطينيًّا بعضهم قُصّر، ما هو إلا نموذج حي لمعاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة استيطان إحلالي صهيوني لم يتوقف منذ نكبة الشعب الفلسطينية قبل سبعة عقود ماضية.
التشجير هو السلاح الناعم، والستار الخفي، والذريعة الكاذبة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية، فسياسة الاحتلال بتهجير السكان الفلسطينيين، واقتلاعهم من أرضهم لم تتوقف على مدار الساعة من شمال فلسطين إلى جنوبها، حيث تتذرع حكومات الاحتلال المتتالية برغبتها في غرس الأشجار، وزراعة الغابات، في حين أن الهدف الأساس هو سلب الأرض الفلسطينية، وتهويدها، ودفع اليهود الصهاينة للاستيطان فيها، ضاربين بعرض الحائط الوثائق والمستندات التي تُثبت أحقية الفلسطينيين في استملاك أرضهم، فكيان الاحتلال الذي يستدعي أساطير توراتية لتمليك اليهود في أرض فلسطيني، يرفض الاعتراف حتى اللحظة بملكية الفلسطينيين لأرض الآباء والأجداد.
وبالحديث عن مخطط حكومة الاحتلال المخادع بتشجير النقب المحتل، نستحضر هنا تصريحات أدلت بها خلال أكتوبر الماضي وزيرة داخلية الاحتلال اليمينية المتطرفة "إيليت شاكيد"، والتي أعلنت خلالها عن مساعيها لإقامة عشر مستوطنات جديدة في النقب المحتل، وزيادة عدد السكان –تقصد المستوطنين اليهود- واستغلال المساحات المُتاحَة لبناء وحدات سكنية إضافية –أي مستوطنات جديدة- وتوطين السكان -تقصد اليهود"، وهو تصريح يوضح أسباب الهجمة الأخيرة التي قامت بها حكومة الاحتلال اليمينية لطرد أهالي النقب، وتهجيرهم من بلداتهم وقراهم الفلسطينية.
كذبة تشجير الأرض الفلسطينية والتي تحمل في طياتها مخططات صهيونية لتهجير الفلسطينيين من أرضهم بقوة السلاح ليست جديدة، فهي شعار رفعته الحركة الصهيونية، حين حاولت قبيل احتلال فلسطين إقناع الرأي العام العالمي بأن فلسطين عبارة عن صحراء قاحلة غير مأهولة بالسكان فهي وفق زعمهم كانت "أرض بلا شعب"، وفي تصريح شهير يؤكد نجاح الصهاينة في إقناع الغرب بهذه الكذبة الخبيثة، صرّح الصهيوني البريطاني "ديفيد لويد جورج" عام 1931م والذي شغل منصب رئيس الوزراء البريطاني خلال فترة إصدار وعد بلفور عام 1917، قال مادحًا الحركة الصهيونية: "تحولت فلسطين من مستنقعات موبوءة بالملاريا إلى مستعمرات مزدهرة"، وبعد إقامة كيان الاحتلال عام 1948 زعم الصهاينة مرارًا بأنهم نجحوا في "جعل الصحراء تُزهر"، وفي ظل هذه استمرارهم بترويج هذه الكذبة يقول شمعون بيريز: "حولنا الصحراء القاحلة إلى حقول مزدهرة".
الاستيطان الصهيوني المتواصل في الأرض الفلسطينية، والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين تحت ستار التشجير يتولاها "الصندوق القومي اليهودي"، الذي يذكر موقعه الرسمي الالكتروني بأن الاستيطان في أرض فلسطين هو رغبة في "إعادة اليهود إلى موطنهم وإحياء الأرض القاحلة وبعث الحياة فيها"، وهنا نذكر تصريح "ديفيد بن غوريون" عام 1951، والذي شغل منصب رئيس حكومة الاحتلال آنذاك قائلًا: "علينا أن نغطي بالغابات كل جبال البلاد ومنحدراتها وكل الهضاب والأراضي" داعيًا اليهود أن يتحدوا من أجل “تزهير الصحراء” وفق وصفه، في تأكيد على أن التشجير هو ستار لطرد الفلسطينيين، وإقامة مستوطنات يهودية في الأرضي التي يتم الاستيلاء عليها.
مخططات الاحتلال لسرقة الأرض الفلسطينية والتي نشاهدها اليوم لم تتوقف على النقب المحتل، أو أراضي الضفة، فقد طالت كل الأرض الفلسطينية، وبالذريعة المخادعة ذاتها، ففي عام ألفين واثني عشر قام الاحتلال بزراعة حدائق توراتية في مدينة القدس المحتلة هدفت آنذاك إلى تغيير معالم القدس، وطمس تاريخها العربي والإسلامي، وتقديمها للسياح الغربيين على أنها مدينة تاريخية يهودية، وفي حقبة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ركز الاحتلال مخططاته الاستيطانية في أراضي الجليل شمال فلسطين المحتلة، تحت ستار زراعة الأشجار، وتحريش أراضي الجليل، والتي كان الهدف الفعلي منها دفع اليهود الصهاينة للانتقال للعيش في منطقة الجليل بحسب تصريح لوزير الزراعة الصهيوني آنذاك "آرئيل شارون".
الغريب في خدعة تشجير الأرض هو أن الصهاينة ومنذ إقامة كيانهم الهش فوق الأرض الفلسطينية اعتمدوا سياسة اقتلاع شجرة الزيتون بوصفها شجرة الفلسطينيين، حيث نتابع بمرارة كيف أن المستوطنين الصهاينة يتعمّدون وعلى مدار الساعة الهجوم على أراضي الفلسطينيين، وحرق أشجار الزيتون دون سبب واضح، حيث تشير الإحصاءات الرسمية الفلسطينية بأن جيش الاحتلال ومستوطنيه يعمدون إلى اقتلاع وحرق عشرات الألوف من أشجار الزيتون كل عام في الضفة المحتلة، تحت ذرائع وحجج واهية، كوجودها في مناطق تدريبات عسكرية صهيونية أو طرق التفافية خاصة بالمستوطنين، وغيرها من الذرائع والتي تهدف حقيقة إلى اقتلاع الشجرة التي تربط الفلسطينيين بأرضهم التاريخية وتراث آبائهم وأجدادهم.
وفي المقابل تعتمد سياسة الاحتلال في تشجير الأرض الفلسطينية على زراعة غابات من الأشجار الإبرية، والتي تشمل أشجار الصنوبر والسرو والكينيا، وغيرها من الأشجار التي لا تنتمي بيئيًّا وتاريخيًّا لأرض فلسطين، فالأساطير التوراتية تصف الأرض المقدسة بأنها غنية بالغابات وتذكر أنواعًا من الأشجار منها الأشجار التي ذكرتها سابقًا، في دلالة على تغليف عملية تشجير الأرض بأساطير يهودية دينية، بالإضافة إلى كون هذه الغابات والأشجار تتواجد بكثافة في غابات أوروبا، وكأن الصهاينة يريدون ألا يشعر المهاجر اليهودي إلى أرض فلسطين باختلاف البيئة أو المشاهد عن الدولة الغربية التي وُلد وترعرع بها أن يأتي مُحتلًّا لأرض فلسطين.
ختامًا لا نغفل عن هدف الاحتلال الصهيوني من زراعة الغابات وتشجير الأرض الفلسطينية، والتي تأتي أيضًا بهدف طمس القرى الفلسطينية التي يتم تهجير سكانها الفلسطينيين قسرًا منها، وتغيير معالمها، وحرمانهم من العودة لاحقًا إليها، وكأن المطلوب من الفلسطيني هو مسح ذكرياته، وعدم التفكير في المطالبة بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد.