أكتبُ إليكَ اليومَ بعدَ غيابٍ طويل، اشتقتُ لكَ كثيرًا، كُن بخير لِيَطْمَئِنَّ قلبي ولِيُسْرِجَ اللهُ نُورَهُ في قَلْبِكَ كَمِشْكاةٍ فيها مصباح لِيُنِيْرَ لنا الطريقَ برضاه وعفوه، أكتبُ إليكَ اليومَ راجيةً إيَّاكَ باسمِ الجبّار الرّحيم ألا تسألَ عن أحْوالي مرةً أُخرى، أنا بخير لا تقلق، أُنَاظِرُ المِرْآة صباح مساء لعلي أُطالعُ صورةً أُخرى غيرَ الأشباحِ لتلكَ الهالةِ السوداء، تلك التي تُوجع بي شريط الذاكرة ألمًا كلما مرت به، لم أُوغل التعمُق فيها حد الشفافية، لكنها بدت كعجوزٍ تسعينيةٍ لا تقوى قدماها على المسير، وكأن شرخًا قد أصاب روحها فبدت عليلةً منكسرةً للعالمين، ترسُم على وجهها ابتسامةً باهتةً لطفلٍ مريض، شاحبة الوجه، أتُراها تجهلُ عينيها المنتفختين وكأن أرقًا لم يرحم مُقْلًتَيْهَا مُنْذُ سِنِيْن! ما بَالُ كفَّيها يرتعشان إلى الحدِّ الذي لا يستطيعُ كتابةَ اسمهِ على ورقةٍ بيضاء يحتاجُها جسدٌ هزيل؟
إنه اليوم الأخير في عامِها الرابع والعشرين!عَادَتْ بِها الذّكرى إلى عامٍ مضى كيف تملّكها الغضبُ لأنَّ والِدَها لم يتذكَّر يوم ميلادها حينها؛ فضَحِكَتْ حتى اغرورقت عيناها بالدموع، بات الضحِكُ يُبْكِيْهَا لأن أولوياتِها في الحياةِ تَغيَّرَت، أدْرَكَتْ أنَّ حياةَ المرءِ قدْ تَنْقَلِبُ رأسًا على عقب بين لحظةٍ وضُحاها، كانت تركضُ في أرجاءِ المدينةِ على عجل، تُخبئ ملفًا ما تحت معطفها علها تُنْقِذُ أوراقًا ثبوتيةً كاد يُغرقها المطرُ، يا الله كم أصبَحَتْ تشاؤميةً نحو المطر! توارتْ تحت نافذةِ إحدى الدوائر الحكومية التي باتتْ تحفظُ تفاصِيلها عن ظهر قلب، تمنتْ في نفسها لو لم تكن مهمة، تخيلت في سرها لو تختفي تلك الأوراق وأن يأخذها الهواءُ المشبعُ بالدخانِ الملوث كما شوارع مدينتها المقيتة، علَّها تفيق من ذلك الكابوس المريع الذي ما انفكَّ يُؤرق عائلتها مُنذ زمن، فاجعة قذف بها طبيبٌ لوالِدها بأن مرضًا خبيثًا استوطن جسده، لكنَّ شيئًا أوقظ غفلةً استشرت في جسدها برهةً جعلها تُحْكِمُ غطاءها وتتشبثُ بأوراقِها بأيدٍ كالحديد، كيف السبيلُ للنجاةِ بلا تحويلةٍ طبيةٍ لم تدّخر للحصولِ عليها سبيلًا؟
نعم، أخجلُ أن تكونَ تلكَ الفتاةُ المنكسرةُ هي أنا، أخافُ عليكَ رؤية ضعفي وانكساري، مفردات اللغة تعجز عن وصف عجزي وانهياري، أحاولُ التعبير عني بها، وأنا يا أبي لم أكن جبانةً إلى هذا الحدّ من قبل، أعترفُ أنني نكثت عهدي إليك بأن أبقى صلبة دائمًا مهما عصفت بي ريح الحياة.
نعم، هزتني هذه المحنة وضربت جذور القلب في صميمه، فما عاد فيه إشراق ولا تفاؤل، قلبٌ يكسُوه الذُبول متى يُنعشهُ الأمل، فمنكَ السماحُ وأنتَ أهلٌ له، كُن باسمِ ربكَ صابرًا قويًّا لا تلِن.
أبي الغالي، لم أكُن أعرفُ أنَّكِ ستحتاجُ يومًا إلى كل تلك الفحوصات يا حبيبي، لم أرَ كيفية عمل غرف الأشعة وصور الرنين المغناطيسي من قبل، كنت أجهل أهمية صورة الـ CT التي يحتاجها مرضى السرطان لتشخيص درجة المرض في أجسادهم، بت اليوم أكثر خبرة بمختبرات التحاليل الطبية في غزة، لم أتخيل ولو في أسوأ كوابيسي أن تصاب بمرض السرطان الذي كنت أخافُ من سماع اسمه حتى، أتُرى الحياة تختبر صبري في أقرب الناس لقلبي؟
وأنتَ تُكابرُ على وجعك، ترفضُ الاستسلام، وأنتَ تُرددُ بكل اليقينِ بأن لن يُصيبك إلا ما كتبَ اللهُ لك، أخجلُ من ضعفي وبُكائي، ضاقت عليَّ الأرضُ بما رحبت حين فُجِعْتُ بمرضك أبِي، أراكَ اليومَ تُشرق بنورِ القُدس، تُزهرُ روحكَ فيها كزهرِ اللوزِ في قُدس الجمالِ، وخلفَ تلكَ الابتسامةِ المصطنعةِ عينان باكيتان متعبتان من علاج ذلك السُم القاتِل المدعُو بالسرطان.
عُذرًا أبي لقد أطلتُ الحديثُ إليكَ كثيرًا، حاولتُ جمع شتات نفسي من الاسترسال في الحديث معكَ أكثر، لطالما كُنتَ صدِيقي قبلَ أن تكون والدي وحبيبي، لم أعتد الكتابة عن وجعي بهذا الشكل من قبل، لا أرى حيلة لهذه الكلمات بالشفاعة لي شيئًا عند الحنين إليك، لم أرد البوح بشيء عنك لأحد، أردتك خالصًا لي ولعائلتنا التي تحاول التماسك بك وهي على حافة الانهيار بل أقرب، وها أنا أتراجع، أختلف مع نفسي من جديد، أكتب عني وعنك، أريد أن يغدو الأمر مجرد ذكرى نتذكرها سويًا ونحن نضحك معًا بعد عمر طويل، أحلم أن تصبح مجرد قصة صعبة عشناها وانتهت، ترويها لأحفادك في مستقبل لا يحلو إلا بك أبي.
لا أملكُ لك الآن إلا الدعاءَ بأن يشفيكَ اللهُ من هذا المرض اللعين، أن يزيل الغمة عنك وعن جميع المرضى، أن يخفف عنكم وجعكم، وليشملكم المولى بحفظه وعنايته كي تعودوا لعائلاتكم بصحة وحب، أعيذكم بكلمات الله التامات من شر ما خلق، سفكونوا بخير.