تنبع أهمية الهبَّة الشعبية الواسعة التي جرت في النقب المحتل من أهمية جغرافيا هذه المنطقة المهمة والحيوية، حيث تنتشر التجمعات الفلسطينية فيه على مساحة واسعة تشرف على أهم الطرق الواصلة بين شمال فلسطين ووسطها حيث التجمع الاستيطاني الأكبر، وبين الجنوب حيث تنتشر القواعد العسكرية البرية والجوية، ما يجعل بإمكان الفلسطينيين قطع هذه الطرق، وإرباك حركة السير، كما يمنح الفلسطينيين القدرة على مهاجمة هذه القواعد المنتشرة في مواقع واسعة ومتباعدة.
والسؤال الذي يطرحه المتابعون لما يجري في النقب، متى وكيف ولماذا جرى هذا التغير في مزاج أهالي النقب، لينطلقوا في هذه الهبة الواسعة، التي أربكت الاحتلال؟ والجواب على ذلك يكمن في أربعة أسباب رئيسة هي التي نجحت في صناعة هذا التغير الذي ظهر شيء من ملامحه في هذه الهبة، مع ضرورة الانتباه إلى أنها لا تمثل إلا رأس الجبل الذي يخفي أسفله تغييراً واسعاً في منظومة القيم والقناعات الرافضة للاحتلال، التي يجب البناء عليها وصولاً لتكاتف كل الفلسطينيين في مشروع إزالة هذا الكيان المجرم.
وهذه الأسباب الأربعة تتمثل في الآتي:
أولاً: انتشار الوعي والمعرفة العلمية، حيث تطورت خلال العقود السبعة الماضية مستويات المعرفة والعلم والثقافة لكل الفلسطينيين، وكان للفلسطينيين في النقب نصيب واسع من ذلك، فلا يمكن المقارنة بين المستوى العلمي لهذا الجيل، وجيل النكبة على سبيل المثال، مع تأكيد تقديرنا واحترامنا لكل أجيال الفلسطينيين التي قاومت جميعها الاحتلال، لكن الحديث هنا عن مستوى انتشار فكرة المقاومة، هل تقتصر على نخب محدودة، أم تمثل فكرة جماهيرية واسعة؟ ولا شك أن للعلم والثقافة تأثير كبير في إرادة كثير من الناس، وقدرتهم على المقاومة والرفض والمواجهة والتحدي.
ثانياً: تأثير الحركة الإسلامية، التي لعبت دوراً كبيراً في نشر الثقافة الدينية التي تحث بطبعها على المقاومة ورفض الاحتلال، وعدم الاندماج معه، والقناعة المطلقة بحتمية زواله.
الحركة الإسلامية بدأت بتوسيع نشاطها في مناطق واسعة في الداخل المحتل، وربما كان ذلك من أهم أسباب توجه الكيان الصهيوني لحظرها وتقييد عملها، وسجن رئيسها الشيخ رائد صلاح.
ثالثاً: تأثير العمل المقاوم للاحتلال في مناطق أخرى، فلا يمكن أبداً أن نتجاهل التأثير المهم لنماذج الصمود والمقاومة، والنجاح في ضرب الاحتلال بقوة، فلا شك أن لصمود قطاع غزة في الحروب الأربع التي جرت فيه وللصور التي خرجت منه أثرا واضحا في كل فلسطيني، فللقدوة تأثير مهم في سلوك الناس، وقد رأينا بعد معركة سيف القدس ارتفاعاً واسعاً في معنويات الفلسطينيين كلهم، وشعوراً بالترابط والوحدة.
رابعاً: تأثير وسائل الإعلام وثورة التواصل الاجتماعي التي لعبت دوراً كبيراً في تعزيز التواصل بين الفلسطينيين في الداخل، وأخوّتهم في كل مكان، فأي مقطع فيديو معبر يمكن أن ينتشر بمنتهى السرعة واليسر، وصولاً لكل مكان، ولكل المهتمين.
كما أن من الدوافع المهمة لهبة أهالي النقب شعورهم بقوتهم الذاتية، الناتجة عن زيادة أعدادهم، فالملاحظ أن عدد من تبقوا في النقب عند النكبة لا يزيد على 13 ألف فلسطيني، يبلغ عددهم اليوم أكثر من 317 ألف نسمة، وهذا العدد المهم يشعرهم بالقدرة على الفعل والتحدي والمواجهة، ويدفعهم للتصدي لمحاولات الاحتلال تهديد وجودهم من خلال الاستيلاء على الأرض، وحصر وجودهم في مدن لا تتناسب بتاتاً مع ثقافتهم، ورغبتهم.
وتنبع أهمية ما يجري في النقب من كونه يمثل بداية، يمكن التأسيس عليها لفعل مقاوم أكثر رسوخاً وانتشاراً، وهو ما يقلق الاحتلال الذي بدأ يستشعر إمكانية تحول هذه الهبة إلى انتفاضة ممتدة وواسعة، ينخرط فيها أهالي الداخل كافة، وتندمج معها الفعاليات المقاومة في الضفة الغربية.
كما أن هذه الهبة بغض النظر عن قدرتها على التحول لانتفاضة شاملة، تعزز الشعور بالوحدة الفلسطينية، وارتباط المصير، والقدرة على التكامل بما يربك الاحتلال، فالقوة العسكرية في غزة تضرب قوات العدو، والفعل الشعبي في الداخل يقطع الطرق، ويربك الجبهة الداخلية، والمقاومة في الضفة تهاجم الجنود والمستوطنين، وتجعلهم في حالة استنفار دائم، واللاجئين في لبنان يقصفون مناطق الشمال بالصواريخ ما يعزز من الشعور بعدم الأمن لدى الصهاينة في كل مكان.