أقدم الاحتلال خلال أربع وعشرين ساعة تقريباً على أربعة تصرفات غير مسبوقة، ولا تندرج أبداً ضمن سلوكيات الدول العاقلة؛ وحتى المجنونة ما دامت تزعم أن لها علاقة قريبة أو بعيدة بالديمقراطية، ومنظومة القيم الغربية، التي ترى "إسرائيل" نفسها جزءاً منها، أو تعلن ذلك على الأقل.
التصرفات الأربعة الأخطر منذ بدء الحرب الشرسة على قطاع غزة تمثلت في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال سبعة من العاملين في المؤسسة الإنسانية الأمريكية "المطبخ المركزي العالمي"، والقرارالمتعلق بإغلاق قناة الجزيرة، وخروج المشاهد المروعة لتدمير مشفى الشفاء بغزة.
تتمثل خطورة التصرفات السابقة على الاحتلال في ثلاث نقاط رئيسية:
أولاً: تناقضها مع منظومة القيم التي تعلنها الولايات المتحدة التي تعد الداعم الأول للاحتلال، وهذه القيم مهمة للولايات المتحدة؛ لأن نشرها والحفاظ عليها يعد أحد أهم الأهداف الأمريكية بعد ضمان بقاء الولايات المتحدة واستمرار هيمنتها، وضمان مصالحها ومصالح مواطنيها، وبغض النظر عن صدق أو كذب واشنطن في تبنيها لتلك القيم؛ إلا أنها معنية بألا يكتشف الناس ذلك، لأن تلك المنظومةالمطبخ من القيم تعد إحدى أدوات قوتها الناعمة في ضمان سيطرتها على دول العالم، فهي إحدى أدوات عقاب الدول الطامحة للخروج عن هيمنتها.
وهذا السبب هو أحد دوافع الموقف الأمريكي الأخير في مجلس الأمن؛ حيث امتنعت عن فرض الفيتو على القرار المطالب بوقف الحرب في رمضان، وهو أيضاً متعلق بشكل كبير بالخلاف بين بايدن ونتنياهو، فهو خلاف حقيقي، لكنه لم يكن أبداً حول قتل الفلسطينيين وإنما حول طريقة قتلهم.
فكيف لنا أن نتخيل موقف تلك المنظومة الغربية أمام جمهورها وأمام دول العالم في ظل تلك الجرائم الفجة، مثل تدمير مستشفى، والحقيقة أن كل المبررات الصهيونية لا قيمة لها، فحتى لو كانت كل المزاعم الإسرائيلية حقيقية، وهي غير حقيقية، فإنها لا تبرر الجريمة، فأي دولة تلك التي تدمر مستشفى لاعتقال "مطلوب"، وتقتل لعقابه من فيها من المرضى، وتحرق أجهزة غسيل الكلى مثلاً.
وكيف ستبرر المنظومة الغربية التي ترفع من شأن قيمة مواطنيها؛ قتل الاحتلال الإسرائيلي لستة من حمَلة جنسياتها، وكيف ستبرر وهي التي تعلن في كل محطة حرية الإعلام إغلاق الجزيرة وقتل الصحفيين؟ وكيف ستواجه بالحجة والمنطق من تراهم جماعات إرهابية وهي تغض النظر عن قصف مبنى دبلوماسي في تجاوز لكل القواعد الحاكمة للعلاقات الدولية؟!
ثانياً: منح الناس مزيداً من الأدلة التي تثبت كذب الاحتلال الإسرائيلي، فلقد قتل الاحتلال مئات من العاملين في الأونروا واتهمهم بالمشاركة في طوفان الأقصى، فهل موظفو المطبخ العالمي أيضاً شاركوا فيه؟ كذلك اتهم الاحتلال عشرات آلاف الفلسطينيين بالإرهاب بعد قتلهم، وهو ما سيتقوض عندما يرى الناس قتل الأجانب الذين لا علاقة لهم بفلسطين، ولم يكونوا إلا ضيوفاً في مهمة إنسانية.
ثالثاً: الإضرار بالمصالح الإسرائيلية نفسها، فقصف موظفي الإغاثة وهم في طريقهم إلى الميناء الأمريكي الجديد، سيضر بجهود العمل فيه، وهو المشروع الذي يخدم الاحتلال دون شك، وإلا لما وافق على العمل فيه.
والسؤال هنا: لماذا أقدمت إسرائيل على هذه التصرفات، أهي سلوكيات مجنونة تعبر عن علو واستكبار، واحتقار للرأي العام العالمي، واستهانة بالحلفاء، أم أنها ناجمة عن تخبط وفقدان للسيطرة، وغياب للتركيز والحكمة؟
والحقيقة أن إسرائيل تجاوزت في حربها على غزة كثيراً من القواعد التي ظلت ناظمة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مدار سنوات طويلة، فرغم فداحة جرائم الاحتلال على مدار أكثر من سبعة عقود، إلا أنه كان حريصاً على إظهار أنه "دولة قانون"، وكان حريصاً على عدم المبالغة في إهانة الناس والمساس بمقدساتهم، مثل المساجد والنساء، وما إلى ذلك.
ولم ينبع ذلك من التزام أخلاقي بقدر انطلاقه من فهم يرى أن إهانة الفلسطيني تدفعه للانتقام، وأن المس بالمقدسات لا يمر دون رد فردي أو منظم، إلا أن وصول مجموعة من الغوغائيين مثل بن غفير وسموتريتش إلى سدة الحكم، وصدمة السابع من أكتوبر جعلت الاحتلال يفقد عقله داخلاً في حالة تخبط مروعة، فلماذا حشر الناس في رفح مثلاً، إن كان يخطط منذ البداية لإخراجهم؟!
لكن هذا التخبط امتزج بعلو واستكبار ناجمين عن الدعم الأمريكي والغربي غير المحدود، فما كان للاحتلال أن يستخدم هذه الكمية من المتفجرات في غزة لولا الدعم المهول، والذي بلغ -وفق بعض المصادر- سبعين ألف طن في الأشهر الثلاثة الأولى، ولولا ذلك لما تجرأ على الاقتحام البري لغزة، لأنه جاء عقب قصف مهول لم يُستخدم في أي صراع من قبل، فلقد تلقى كل مواطن صغيراً أو كبيراً في غزة أكثر من 30 كيلوغراماً من المتفجرات خلال الأشهر الثلاثة الأولى.
هذا التخبط عندما امتزج بذلك الاستكبار تحول إلى جنون منفلت، فلا سيطرة على الجنود في الميدان، ولا على الساسة في الإعلام، (تصريح غالانت الذي وصف الفلسطينيين بالحيوانات البشرية – نموذجاً) فبات الجنود والضباط يتصرفون دون ضوابط، يقتلون كل ما يتحرك، ولو كانوا أسرى إسرائيليين يطلبون المساندة.
وسياسياً، يفعل نتنياهو كل شيء فقط لضمان بقائه في سدة الحكم، ولذا يطيل أمد الحرب في غزة دون جدوى حقيقية، ويهدد بدخول رفح وهو يعلم أنها لن تضيف شيئاً، وبات متهوراً في قصف قنصلية وإغلاق قناة تلفزيونية وتدمير مشفى، وصدام مع بايدن.
يفعل كل ذلك لعله يظهر بطلاً ترتفع أسهمه في الانتخابات، أو يجد حرباً جديدة تساهم في تأجيلها، إنه الجنون والتخبط معاً، في قمة الهرم في ميدان السياسة، وفي ذيله في ميدان المعركة، وما تلك إلا بشرى تؤكد أن هذا العدو لن ينجح في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، ولا نتيجة لإجرامه إلا قتل الأبرياء وتدمير بيوتهم ومؤسساتهم المدنية.