ما بين تعبير إيراني عن "انحسار الخلافات" وآخر روسي بـ "تحقيق تقدم" وتأكيد أمريكي بأن مفاوضات النووي الإيراني في فيينا قد "بلغت مرحلة حاسمة" تتواصل الجولة الثامنة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في فيينا بشأن العودة إلى الاتفاق النووي الموقع في 2015، الذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018. ومن الواضح أن فرصة التوصل إلى اتفاق قائمة لدى جميع الاطراف، ولكن الجميع بحاجة لتحسين الضمانات لدى الطرف الآخر.
المفاوضات تُجرى على مستوى لجان الخبراء، وتشارك فيها خمس دول هي فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين وألمانيا بالإضافة إلى مندوب الاتحاد الأوروبي. وتتركز المفاوضات في ثلاثة مسارات هي: رفع العقوبات عن إيران، والتزامها العودةَ لاتفاق 2015 المعدل، والضمانات المتبادلة بما يتم الاتفاق عليه.
في حين تصر إيران على أن يتم رفع العقوبات أولاً بالإضافة إلى ضمانات دولية بذلك؛ تصر الولايات المتحدة على التزام إيران الاتفاقَ أولاً، أما الدول الأوروبية فتتبنى مبدأ التوازي بين المسارات، وأن تكون الضمانات متبادلة.
وتكمن المعضلة الأساسية في المفاوضات بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والوسطاء الأوروبيين في التغييرات الإستراتيجية التي أحدثتها إيران في فترة الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، حيث تطالب الولايات المتحدة ومعها الأوروبيون، بالتزام إيران إخراجَ اليورانيوم الذي أنتجته زيادة على حدود اتفاق 2015، وتدمير أجهزة الطرد المركزي المتطورة التي أدخلتها الخدمة في مفاعلاتها النووية، الأمر الذي ترفضه إيران، وتصر على أن ما تم هو خارج حدود الاتفاق الممكن باعتبار أن الانسحاب الأمريكي من جانب واحد، قد منح إيران حقها في تطوير مشروعها النووي.
الوسطاء الأوروبيون -وتحديداً فرنسا وألمانيا- يؤكدون أهمية إنجاز الاتفاق في أسرع وقت، على اعتبار أن التأخر لأشهر قد يمنح إيران فرصة أن تكون من دول العتبة النووية، بمعنى وصولها إلى مستوى تقني يؤهلها إلى صنع قنبلة نووية قابلة للاستخدام العسكري.
ومن الواضح أن إيران تبدو أكثر ارتياحاً لكونها وصلت إلى مستوى تقني يمنحها أفضلية في إدارة التفاوض وصولاً لاتفاق أفضل مما كان عليه في نسخة 2015.
في المقابل فإن نبرة العدو الإسرائيلي تراجعت من التهديد بضربة عسكرية إلى القول إن الاتفاق خير من عدم الاتفاق، في إشارة إلى تراجع قوتها في التأثير بمسار الولايات المتحدة في العودة إلى الاتفاق مع التعديل. ويبدو أنها استطاعت استثمار تلويحها بالخيار العسكري وقيامها بأعمال تفجير واغتيالات داخل إيران في الفترة الماضية لتحسين فرص الدعم الأمريكي لها عسكرياً. وتأتي زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي "جيك سوليفان" نهاية ديسمبر 2021 الماضي لتأكيد رعاية الولايات المتحدة الأمريكية المصالحَ الإسرائيلية بمنع حصول إيران على سلاح نووي، مع تأكيده أن الدبلوماسية تبقى أفضل سبيل لتحقيق ذلك. ومن اللافت ما قاله سوليفان بأن الموقف الحالي للولايات المتحدة في فيينا يعود إلى انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي، "ونحن ندفع ثمن هذا الخطأ الكارثي".
إن ما يجري في فيينا يُظهر أن مقاومة الإرادة الأمريكية ممكنة، وأن الدول الإسلامية والعربية يمكنها أن تقاوم الاشتراطات الغربية إذا كانت لديها إرادة حقيقية لتحقيق مصالح قومية أو وطنية، وهذا ما يمنح وجهًا آخر لنظرية المقاومة والتحدي في مقابل التبعية والبحث عن حلول لا تستجيب للإرادة الوطنية والقومية.
هذا النموذج الذي تجسده المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي مطلوب تعزيزه عربياً وإسلامياً، على أساس من الحاجة الإقليمية للحماية من أطماع العدو الإسرائيلي الذي يقتات على ضعفنا، فهو يضغط باستمرار وبشكل علني للحصول على مكتسبات توفر له الأمن، لإدراكه بأن صعود أي قوة إقليمية يمثل تهديداً له ولأهدافه الإستراتيجية بتفوقه العسكري والاقتصادي والسياسي، وهو ما يتعارض مع مصالح شعوب المنطقة ويتناقض مع تاريخها ويهدد مستقبلها.