مهند الطاهر أو "آلة الموت" كما أطلق عليه الشاباك، كان أحد المشايخ الذين علمونا حفظ القرآن في مسجد عاشور في رأس العين يوم كنت فتىً في الرابعة عشرة من عمري، خبرته عن قرب ثلاثة أيام في الأسبوع، ما زلت أتذكر قميصه الأزرق المقلم وبنطاله القماش الأسود الذين لطالما كان يرتديهما، ما زلت أتذكر ابتسامته الصادقة وكلامه الهادئ الموزون وصوته الخافت الذي كان يخفي خلفه أسدًا مزمجرًا.. كان يربينا على معاني الرجولة ويرفض "المياعة" ولا يحب كثرة المزاح.. كانت شخصية يغلب عليها الجدية.. كان روحانيًا يعيش بعزلة شعورية في عالمه الخاص وكأنه جاء من عصر الصحابة أو زمن التابعين.
ما زلت أتذكره وهو يلعب معنا كرة القدم حافي القدمين مشمر الساقين في مدرسة عمرو بن العاص القريبة من المسجد، كان نحيل الجسد لكن قوي البنية، نابلسيًا أصليًا لكنه كان خشنًا صلبًا، ألف حياة المطاردة بين الجبال والكهوف والصخور.. ما زلت أتذكر مشهد اعتقاله على يد عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية عندما اقتحموا بملابسهم المدنية قاعة المسجد السفلية بأحذيتهم واقتادوه معهم، سار معهم بكل هدوء دون أن يرجف له جفن.. كان ذلك عام 1997 ومن يومها بقي في سجن الجنيد حتى اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000.
لطالما كان يأتي برفقة مهند عدد من "المعارف" و"الغرباء"، أحد هؤلاء كان الأسير عمار الزبن الذي كان منزله قريبًا من المسجد، هذا الأخير لم يكن محل ترحاب لدينا وكنا ننظر إليه نظرة سلبية ونرفض السلام عليه، فقد كان عنصرًا في أجهزة السلطة وكان يردتي بدلة عسكرية زرقاء اللون، أما هو فكان يكتفي بالابتسامة من موقفنا، عرفنا فيما بعد أنه فعل ذلك تمويهًا على نشاطه في كتائب القسام، أما أحد "الغرباء" وكما علمنا فيما بعد فقد كان الشهيد محمود أبو هنود الذي كان يأتي أحيانًا برفقة الزبن مرتديًا ملابس عساكر السلطة.
مهند كان من الشخصيات التي جذبتني بقوة، كان مثالًا للمجاهد المضحي بدأ مشوار ذات الشوكة عام 1995، كان رجلًا صدق الله ما وعده، محترفًا في صناعة قوالب الموت خبيرًا في حشوه حتى استحق بجدارة لقب "المهندس"، ما زلت أتذكر صياحه وبكاءه في أعقاب اغتيال الاحتلال الشهيد إبراهيم بني عودة بداية انتفاضة الأقصى بالقرب من مسجد السلام، فقد كان من أوائل الواصلين لمكان سيارته المتفجرة وجثته مشطورة الرأس، كان يصرخ بأعلى صوته متوعدًا بالثأر حينًا وناعيًا الشهيد باسم كتائب القسام أحيانًا أخرى، كانت عيناه دامعتين ووجنتاه محمرتين، ما زالت قسمات وجهه محفورة في ذاكرتي.
بعدها انسل الطاهر المهند من بين الجموع وصعد من الدرج القريب من مكتبة البلدية واختفى بين المنازل مختارًا لقب المطارد، كان ذلك آخر مشهد أراه فيه حيًا قبل اغتياله نهاية حزيران 2002، يومها لم يكتف الاحتلال بتصفيته ورفيقه عماد دروزة بعد محاصرة وهدم منزل "المصري" في منطقة المساكن شرق نابلس، بل سحب جثته وسكب عليها البنزين وأشعل النار فيها، حقدًا وانتقامًا من رجل لطالما أوجعهم وأوقع فيهم الأذى الجسيم.
بعد اغتياله دنت الأم الصابرة المكلوم من جثمان ابنها الملفوف براية التوحيد في ثلاجات مشفى رفيديا.. وضعت رأسها قرب رأسه وبدأت تحدثه وتدعو له في مشهد حزين أدمع الحاضرين.. ثم بكت عليه بصمت كما وعدته في حياته.. بعدها انطلق موكب التشييع متحديًا دبابات الاحتلال التي ضاقت بهم شوارع نابلس ودفن في المقبرة الشرقية إلى جوار أستاذه ورفيق محنته في الجنيد المفكر جمال منصور.
نجا الطاهر من عدة محاولات اغتيال محكمة، كانت إحداها يوم حوصر برفقة عدد من مقاتلي القسام في جبال قرية عصيرة الشمالية خلال اجتياح مدينة نابلس في نيسان 2002، عندها تمكنوا من الانسحاب فيما استشهد أحدهم بعد أن غطى ظهورهم، وفي حادثة أخرى كان الطاهر متواجدًا في المنزل الذي اغتيل فيه الشيخ يوسف السركي وبقية إخوانه بداية عام 2002، غير أنه خرج من المنزل قبل ساعات من عملية الاغتيال.. وفي حادثة ثالثة وقبل اغتياله بشهرين تمكن من الانسحاب برفقة الشهيد علي علان، يوم أن حوصروا في مشغل الحلبوني للخياطة في شارع غرناطة وسط نابلس، حينها بقي الشهيد علي الحضيري في المكان، إلى أن استشهد بعد أن قتل وجرح عددًا من جنود النخبة.
رحمك الله يا مهند وطبت حيًا وميتًا، كنت رجلًا من أهل الآخرة إلى أن اختارك الله إلى جواره، في يوم اغتياله أعلن الشاباك تصفية المطلوب رقم (1) في الضفة الغربية والمهندس الرابع في كتائب القسام المتهم بالإشراف على عشرات العمليات التي أوقعت أكثر من 120 قتيلًا إسرائيليًا حسب ما أعلن الاحتلال، كانت عملية جيلو التي نفذها رفيقه في كلية الشريعة في جامعة النجاح الشهيد محمد هزاع الغول والتي وقف شارون أمام باصها المتطاير وجثثها الممددة إلى جانب بعضها، كانت آخر بصماته.. مهند الطاهر لكل من اسمه نصيب، كان سيفًا طاهرًا لا يعرف سوى رقاب الاحتلال مع أنه كان قادرًا على تطيير ظالميه.