مرَّ أسبوعٌ حزين على رحيله، تنظر والدته إلى وحيدها، تتفقد غرفته، تحدق إلى سريره الفارغ، لم يعد صوته يملأ كل أركان المنزل لحظة عودته "يما؛ هيني رجعت!".. متوددًا إليها، ثم يمر على جدتيه المسنتين لينال الرضا، اختفى من أزقة "مخيم المية ومية" للاجئين الفلسطينيين جنوبي لبنان، وصوته من حلقات تحفيظ القرآن الكريم للأطفال.
عمر السهلي، ابن الحادي وعشرين عامًا شهيد مجزرة مخيم "البرج الشمالي" لاجئ فلسطيني تنحدر أصوله من "بلد الشيخ" بحيفا، لم ير بلدته، لكنه حفر اسمها على جدار قلبه ورسم طريق العودة إليها على فوهةِ البنادق وحلقات القرآن، حفظ كل تفاصيلها، وشوارعها، بيوتها، عاداتها وتقاليدها كما حدثته جدتاه عنها، فتسلم مفاتيح الارتباط المتجذر وظلَّ الحب والحنين والشوق لقريته كبيرًا، وهو الذي لا يبعد عن حدود فلسطين المحتلة سوى نحو 40 كيلومترًا.
وفي أول اختبار لهذا الحب بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ أيار الماضي، وخلال حملة جمع تبرعات بالمخيم لصالح قطاع غزة، جاء عمر –وهو من أسرة فقيرة- بكل مصروفه الذي ادخره لتعليمه الجامعي، ووضعه في يد مسؤول الحملة الخيرية أحمد الخطيب الذي يعرف ظروفه، فرفض تسلمه: "احنا عارفين ظروف وضعك.. مش مطلوب منك"، لكنه أصرَّ على تقديمه كله، رخيصًا لأجل فلسطين التي كانت وجهة قلبه، وملاذ روحه.
تتصل بوالد الشهيد لتعزيه في مصابه الجلل لتواسي جراحه وتسأل الله أن يلهمه الصبر والسلوان، لتجده يرتدي ثوب الثبات بأبهى حلة صمود أمام انكسار القلب ووجع فراق ابنه الوحيد: "الحمد لله الذي أكرمنا واصطفاه من الشهداء فهم تاج رؤوسنا وفلذة أكبادنا وصناع مجدنا وأمل أوطاننا، وربط على قلوبنا بالصبر.. اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى".
الختمة الأخيرة
يحرر والده صوته من قيود الحزن "من كعمر؟ فكان في الآونة الأخيرة، يستعدُ لختم القرآن الكريم ويعطي دروسًا للأطفال ليسيروا على نهج الرسول، كان محبوبًا بين أصدقائه والناس، فالصغير والكبير يحبه ويحترمه".
"ما يؤكد كلامي أنه من كل بقاع الأرض، حضروا ليزفوه إلى مثواه الأخير، فكان محبًّا للخير والعطاء سخيًّا مبادرًا، محبًّا للعمل مساعدًا لكل الأنشطة الاجتماعية والأعمال الخيرية، شارك في البطولات الرياضية وكان مسؤولًا عن تقديم المساعدات للطلاب والمحتاجين وذوي الإعاقة".. أصوات المعزين تقاطع والده.
كلماتٌ محمولة بالوجع تغادر قلبه: "كانت وجهة عمر الوحيدة "بلد الشيخ"، وتحرير فلسطين والمسجد الأقصى والصلاة فيه، ترعرع على ذلك في الإعداد والجهاد لتحرير فلسطين، طلب الشهادة ونالها، أحب العلم فبعدما أنهى الثانوية العامة بدأ بدراسة الشريعة الإسلامية، وكان يخطط للدراسة الجامعية تخصص هندسة حاسوب".
منعت حشود المعزين والده، من إكمال رواية القصة لصحيفة "فلسطين"، لكن أحمد الخطيب ناب عنه، مستحضرًا صورة عمر ورفاقه قبل مجزرة إطلاق النار: "كانوا في مقدمة المسيرة يحملون نعش الشهيد حمزة شاهين، فقد كان لهم الأخ الكبير، والمربي الذي ترعرعوا على يديه في التربية والطاعات والعبادة".
إيثار الشهداء
يحرك صوته مشهد اللحظات الأخيرة: "عندما وصلنا إلى مكان الدفن وكانت الجموع تلتف حول المقاومة، قام مسلحون (ينتمون لحركة فتح) بالسباب والشتائم وبدؤوا في إطلاق النار على النعش، وكان عمر أول من أصيب بالرصاص، من أعلى الكتف نزولاً إلى قلبه، ثم انهمر الرصاص على المشيعين، فارتمى عمر ورفاقه أرضًا وغطوا أجسادهم ببعضهم بعضًا، هذا المشهد لا يغادر مخيلتي".
يعرف الخطيب عن عمر، أنه محافظ على صلاة الفجر يصوم الاثنين والخميس له ورد يومي وكان ورفاقه يوقظون بعضهم لصلاة الفجر، "شاب مهذب بار بوالديه وجدتيه اللتين ما زالتا على قيد الحياة، متواضع بشوش خدوم يساعد الكبير والصغير، وفي الشدائد كالأسد، وحيد أهله من عائلة فقيرة متواضعة، تدرج من الكشافة، وانتقل للعمل الطلابي الجامعي، وكان خدومًا للطلاب.
رحل عمر وهو يرتدي بزة عسكريةً، ويحملُ سلاحًا كانت بوصلته تحرير فلسطين، رفض أن يوجهه بعيدًا عن هذه البوصلة حتى وهو مسجى بالدماء تنزفُ دماؤه، في لحظة وجهت إلى قلبه رصاصات الغدر ممن ضلوا طريق التحرير والمقاومة ليمنعوا عمر من إكمال مسيرته العلمية، وحلمه بدراسة الهندسة، ومن الصلاة بالأقصى، وحرموا والديه من فلذة كبدهما الوحيد.