فلسطين أون لاين

وقاحة السبع الكبار

مجموعة الدول الصناعية السبع سميت هذا الاسم لأنها صاحبة أكبر سبعة اقتصادات في العالم، وقد شُكلت في عام 1976، عندما انضمت كندا إلى مجموعة من ستة دول: فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، تدّعى منظمة السبع الكبار أنها تتخذ قيم الحرية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، حكم القانون، والرخاء، والتنمية المستدامة مبادئ رئيسة لها، ولكن ممارساتها على أرض الواقع تشير بوضوح إلى أنها تمثل إرث الاستعمار القديم الذي يحاول إبقاء سيطرته العسكرية والاقتصادية على العالم، ولكن تحت تلك اللافتة البرّاقة، ولذلك بقيت الصين وروسيا -وهما من أصحاب أكبر اقتصادات العالم أيضًا- خارج هذه المجموعة، فالصين من وجهة نظر المجموعة لا يرقى دخل الفرد فيها إلى دخل الفرد في الدول السبع أعضاء مجموعة، وفقًا لحساب نصيب الفرد من ثروات البلاد، أما روسيا فانضمت للمجموعة عام 1998 ثم عُلقت عضويتها بعد أن ضمت جزيرة القرم عام 2014م.

  في ختام اجتماع الدول السبع التي تسمي نفسها "السبع الكبار" أول هذا الأسبوع أصدرت وزيرة الخارجية البريطانية بيانًا باسم المجموعة، قالت فيه:

“إن المفاوضات التي استؤنفت لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني هي الفرصة الأخيرة أمام إيران للمجيء إلى طاولة المفاوضات مع حل جدي لهذه المشكلة”.

وشددت على أنه “لا يزال هناك وقت لإيران كي تأتي وتقبل هذا الاتفاق”، لكن “هذه هي الفرصة الأخيرة”، وحثت طهران على تقديم “اقتراح جدي”، مضيفة: “من المهم أن تقوم إيران بذلك لأننا لن نسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي”.

 يأتي هذا الموقف للدول السبع المخالف للقانون الدولي بشكل سافر متساوقًا تمامًا مع الموقف الصهيوني، المغرق بالعدائية ليس لإيران فقط، بل لكل محور المقاومة، وفي السياق ذاته يأتي هذه الإعلان عقب الإعلان الذي أعلنته وزيرة الداخلية البريطانية أيضًا بأن المقاومة في فلسطين إرهابية، مبرئة العدو الصهيوني من أي جرائم بحق شعبنا، ليأتي تقرير الصحيفة الصهيونية هآرتس في عددها قبل يومين ليذكر شهادات جنود صهاينة ببشاعة الجرائم التي ارتكبت بحق شعبنا منذ عام 1948م، وأخفتها الحكومة الصهيونية حتى أظهرتها صحيفة هآرتس.

 لم تذكر وزيرة الخارجية البريطانية أن "الاتفاق النووي" الموقع بين الولايات المتحدة وإيران نقضه الرئيس الأمريكي السابق ترامب بكل غطرسة وعنجهية، خلافًا لاتفاقية فينا لقانون المعاهدات التي دخلت حيز النفاذ في 27 كانون الآخر (يناير) 1980، لا سيما الجزء الخامس منها، ولم تجد هذه الدول التي تسمي نفسها "الكبار" أي غضاضة في ممالأة ترامب في موقفه المتغطرس، واصطفت بشكل صريح إلى جانب الولايات المتحدة وهي الطرف المتجاوز والمتمرد على نصوص الاتفاقية، ثم تأتي هذه الدول اليوم لتحذر إيران وتهددها بالعقوبات، وكان الأولى بها أن تتخذ هذا الموقف من الولايات المتحدة، وهي الطرف المعتدي والظالم، تتخذ هذا الموقف في الوقت ذاته الذي تهدد فيه (إسرائيل) باستخدام القوة العسكرية ضد إيران.

منذ عام 1972م لم تترجم الشعارات التي ترفعها منظمة السبع الكبار إلى برامج تدعم التحولات الديمقراطية أو التنمية المستدامة، ولذلك لم يتغير العالم إلى الأحسن، بل عملت هذه المنظمة بالروح الاستعمارية نفسها التي ورثتها من تاريخها المظلم بالانحياز إلى الدكتاتوريات ضد شعوبها، وساهمت في إفقار الدول النامية بسياساتها الاقتصادية التي نهبت ثروات الشعوب، وهذا ما أشار إليه الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي في حديثه إلى قناة الجزيرة في برنامج "الجانب الآخر"؛ أنه قدم طلبًا للدول الغربية بأن تعفي تونس من ديونها عقب الثورة، لكي تستقر العملية الديمقراطية وتنهض تونس اقتصاديًّا، لكنها رفضت طلبه.

 في اتجاه آخر تدين هذه الدول الحشود الروسية على حدود أوكرانيا، وتهدد روسيا بعقوبات قاسية في حال شنت الحرب على أوكرانيا، مع أن أوكرانيا تعد الحديقة الخلفية لروسيا التي يلعب حلف الناتو فيها بشكل يهدد الأمن القومي الروسي، هذا التناقض في العمل السياسي الذي تمارسه السبع الكبار وتجلى في إغماض العين عن التهديد الصهيوني بحق إيران، والانضمام إلى الكيان في تهديد إيران بفرض عقوبات، ثم يتحول هذا الموقف إلى النقيض تجاه روسيا، إذا ما حاولت حماية أمنها القومي، مع أن أوكرانيا كانت قبل أعوام قليلة جزءًا من الاتحاد السوفيتي.

المقارنة بين المواقف لمجموعة السبع تعطي مؤشرًا واضحًا أن العالم يتجه إلى الخروج السافر على الأصول القانونية والدبلوماسية، ولو بحدها الأدنى في العلاقات بين دول العالم، وأصبح هناك سفور فج في ممارسة العمل السياسي الذي لم يعد يأبه أربابه لتغطية مواقفهم المتحيزة والظالمة بأي أغطية قانونية أو دبلوماسية، حتى لو كانت هذه الأغطية غربالًا لا يستر عيوبًا أكثر منها ذرًّا للرماد في العيون.

الموقف الذي اتخذته منظمة السبع الكبار يدعو إلى إطفاف آخر يجمع بين الدول التي تتناقض مع سياسة السبع، وهو تجمع أو حلف تفرضه المصلحة تمامًا، كما جمعت المصلحة "السبع الكبار" في إبقاء سيطرتهم على النفوذ والاقتصاد في العالم، وربما نشهد مرة أخرى بروز حلفين عالميين مرة أخرى لأنه لم يعد -حسب ظني- مجال للتصالح بين الأقطاب المتنافرة تلك القديمة أو البارزة، وقد بدأت معالم هذا الحلف تظهر شيئًا فشيئًا ليجمع روسيا والصين وإيران، وما زالت تركيا تتأرجح بين الحلفين، وأظنها ستحسم أمرها قريبًا، فلم يبقَ لها كثير وقت للتشبث بحلف الناتو الذي يبقيها في الصفوف الخلفية منه لتعطي ولا تأخذ، وهذا ما ظهر جليًّا في تخلي الحلف عن تركيا في حروبها الأخيرة، رغم كل ما قدمته للحلف من دعم في كل ما طلبه منها، فضلًا عن الإصرار على إبقائها خارج الاتحاد الأوربي للحفاظ على أيديولوجيته الصهيونية المسيحية التي لا تقبل دولة مسلمة فيه.

 العالم قاب قوسين من إعادة تركيبه مرة أخرى، ولعلنا نشهد مخاض نظام عالمي جديد آن أوانه، فلم يعد العالم يحتمل مزيدًا من الضغط، الذي إذا انفجر فسيكون انفجاره كارثة على البشرية لا يعلم مداها إلا الله.