فلسطين أون لاين

لم يُبقِ من ملابسه لصلاة الجمعة إلا القليل

تقرير باطن الأرض يشهد عليه.. في الأربعاء الأخير لم يعد "هاني" إلى قلب أميرته

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

في مساء منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني تحديدًا أخبر هاني زوجته أميرة أنه سيخرج فجرًا لمهمة مغلقة وسيعود في يوم الأربعاء من كل أسبوع؛ حزنت لذلك، فقد كان منشغلًا كثيرًا في الآونة الأخيرة، ولكنها لم تعارضه، فلم تكن تلك المرة الأولى التي يتركها فيها.

في كل أربعاء كان يعود ويخبرها أنه سيذهب أسبوعًا آخر وفي ثالث أربعاء، دفعها حدس داخلي تجهل تفاصيله سوى أنها استيقظت "مختنقة" وكأنَّ حبال القلق تلتف حول قلبها، فرجته أن يعدل عن قرار مغادرة المنزل، بكت أمامه وتوسلت إليه والدموع لا تتوقف عن مفارقة محجرهما لأجل ذلك.

بسط هاني ذراعيه لها بلطف محاولًا إسكات ثورة القلق المشتعلة داخلها: "أميرة.. بدي ياكِ تكوني قوية زي ما بعرفك!" ثم قفزت منه ضحكة: "بدي أرجع يوم الأربعاء أشوفك مبسوطة وتعمليلي حاجة حلوة إلي وللشباب"، قاطعًا عهدًا لطالما تمنته: "بس نخلص من هادي الشغل بدنا نعمل عمرة".  

هدأت وابتسمت، فهو يعلم أنها تتمنى الذهاب للحرم معًا للتضرع إلى الله؛ وفي صباح السادس من ديسمبر/ كانون أول 2021، دق الباب دقة قوية لوهلةً ظنت أنه هو! تطاير الفرح من قلبها، لكنها كانت طرقات قوية متتالية دبت الرعب في قلبها، وإذ بخالها تحمل عيناه نصف الإجابة، لأسئلتها المرتبكة: 

- شو فيه؟!

- احكي الحمد لله

- خالي شو فيه؟

-هاني!!

- مالوو!! احكي منشان الله.

- استشهد.

توقف الزمن بعد تلك الكلمة، وتشنجت أطرافها، تجمد الكلام داخل حلقها، وأطبق الصمت على قلبها، وكأنه سكن عن الحياة.. حتى جاؤوا بِه مكفَّنًا لا يظهر منه إلا نور وجهه وبسمة ارتسمت على شفتيه، ذهبوا به سريعًا فلم يبقَ منه إلا طيب المسك يبعث فيها روح الحياة.

"لم أعهد أحدًا بحنانه، بقوته، بحبه، بإيمانه وصبره وثباته، هاني زوجي الذي اخترته شريكًا وصديقًا وحبيبًا وزوجًا صالحا، قد تعاهدنا على العمر معًا ولكنّه آثر أن يحجز لي مقعدًا في أعالي الجنان بإذن الله".. كلماتٌ محمولة بالوجع غادرت قلبها.

تطير ذاكرتها إلى بداية الارتباط الذي عقد قلبه على قلبها في مثل هذا الشهر في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2014: "في أول جلسة لنا معًا أخبرني أنّه من أبطال نخبة كتائب الشهيد عز الدين القسام، وكانت هذه هي بداية تعلقي الشديد به، وقمت الليالي الطوال داعيةً أن يخرجه الله من هذا الطريق، فأنا لا أقدر على الفراق، دعوت الله أن يختار له طريق الخير، دعوت الله كثيرًا أن يحفظه لي".

يستقر ترحال صوتها عند السابع من أكتوبر 2015، "كانت ليلة زفافنا، عشنا معًا في غرفة صغيرة مع أهله، تشهد كل زواياها على ندرته، كم من ليالٍ عشتها والدموع تذرف من عينيّ سيلًا لا يكلّ لبعده عني وانشغاله الدائم بالعمل؛ ما رنّ يومًا هاتفه إلا ولبّى نداء الجهاد مهما كان منهكًا من شدة التعب!".

هذا هو هاني

لا يوجد أفضل من زوجته ليخبرك عن العالم المخفي في حياة هاني، "بعد عام تقريبًا من زواجنا أصبح يعود من عمله -الذي لم أكن أعرفه يومًا ولم يصارحني به مطلقًا- حاملًا ملابسه الملتصقة بالتراب التصاقًا، وبكل لطف يطلب مني غسلها لكي يعاود ارتداءها في الأيام التالية".

تعطلت عجلة إجابتها، صمتت، قبل أن تعود للدوران، "تشهد عليه ملابسه أنه وهبها جميعًا للعمل، فما بقي له من الثياب لصلاة الجمعة إلا القليل، كنت أغسل ثيابه بكلتا يديّ وعيناي كالمغشي عليهما، لا أصدق أنه يعمل في الأنفاق، لا أصدق أنه يتركني ليالي وأيامًا للعمل تحت الأرض؛ يعود مبتسمًا حانيًا مشتاقًا حافظًا سر عمله، يطلب الرضا من الله بارًا بوالديه محبًا لإخوانه عطوفًا على أختيه سندًا لابنتيه".

طفلته غادة ذات الأعوام الأربعة وغنى الصغيرة التي كان ينعتها دائما بالـ "مشاغبة"، حبيبتاه وخليفتاه في الحنان! ما كان يأتي صباح تفتح فيه غنى عينيها إلا وتسأل: "ماما وين بابا؟"، حتى حفظت الإجابة فصارت تسأل وتجيب نفسها في ضجر وبراءة "يي.. بالشغل"، فترد عليها شقيقتها غادة: "آه يا غنى راح عالشغل وعدو بيجي بجبلنا هدايا وحاجات وبياخدنا عالبحر".

تبكي زوجته حرقة وهي تستحضر علاقته بطفلتيه: "ما كان أشد عطفه عليهما، فما طلبتا منه شيئًا إلا ولبّى، لا يفرّق بينهما في شيءٍ أبدًا، كانتا تنامان على القصص التي يحكيها لهما (...) كان يأمل أن يرزقه الله بولدين فيسميهما سامي وعلاء".

كانت تأتيه أيام من شدة تعبه يُسر لزوجته بألمه قائلًا: "بتعرفي شو نفسي يجيبوا هاي الي بترص الشوارع ويمشوها فوق ظهري"، لكنه وفي اليوم التالي إذ به يستيقظ وقد ذهب التعب الذي بقي أثره عند الله، هكذا كان يشحن عزيمته وعزيمتها.

إرهاصات الرحيل

قبل شهر تقريبًا رأى هاني في المنام أن شيئًا ما سينهال عليه أيقظ زوجته "خدي البنت وقومي بسرعة"، لكنه هو لم يتحرك من مكانه! كانت إرهاصات للرحيل التي لم تتخيل أن تعيشها واقعًا، فـ "سلامٌ لك، صدقت الله فنلت ما تمنيت، سلامٌ لك يا حبيبي حتى ألقاك"، تخص روح زوجها بعبارة خرجت من عمق فؤادها.

نعت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة "حماس"، المجاهد هاني سامي صلاح (28 عامًا) من مسجد "أرض الرباط" في حي التفاح شرق مدينة غزة، والذي استشهد في إثر انهيار نفق للمقاومة، ليمضي إلى "ربه بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء والجهاد والتضحية والرباط في سبيل الله"، ويترك غادة وغنى تسمع قصصًا عن بطولات وتضحية والديهما هاني الذي لم يعد في الأربعاء الأخير لقلب أميرته.