أكتب بداية بصفتي شاهد عيان ومشارك للتفكير في التجربة بمراحلها الأولى، كنت حينها في سجن عسقلان سنة 1998 وثار النقاش حول هذا الموضوع ولم يكن له أيّ قبول إلا قليلا، بداية هو تفكير جماعي أنتجته الحركة الأسيرة وقد خاض مخاضا عسيرا واستمرّ عدة سنوات حتى رأى النور وتحوّل إلى فعل نضاليّ يحظى بتقدير عالٍ وقد أعتبر إنجازا هاما من إنجازات الحركة الأسيرة وانتصارا سجّلته على سجّانها وحظي هذا الأمر على حالة إجماع للحركة الأسيرة بكلّ فصائلها وكوادرها وعناصرها ولم يعد أبدا اجتهادا فرديّا وإنما هو نتاج فعل جمعيّ لمجمل الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية.
ثمة في البدايات كانت هناك تخوّفات كثيرة ومحاذير اجتماعية حسّاسة وكان للمعارضين وجهة نظر وتخوّفات يطرحونها، وكانت بداية التفكير من نقطة أنّ السجين الإسرائيلي الجنائي الذي مارس الجريمة يُسمح له بالخلوة مع زوجته في غرفة في السجن وكانوا يأخذون إجازات يخرجون بها من السجن ليمارس حياته الزوجية كما يحلوا له، وكان ينجب أطفالا وهو في السجن وهذا معمول به في دول كثيرة في العالم، فلماذا لا يسمح للمعتقل الفلسطيني أن يمارس هذا الحق؟ واضح أن سلطات الاحتلال تمعن في تحقيق أشدّ أنواع المعاناة والألم للمعتقل الفلسطيني والعربي وتعمل جاهدة على منعه من ممارسة حقه بكل السبل، ومنها هذا الحقّ. فكان التفكير بطريقة إبداعية تحقق للمعتقل المحكوم أحكاما عالية تحقيق الإنجاب وهو داخل السجن بهذه الطريقة: النطف التي يتم تحريرها عنوة ورغم أنف السجان.
ولتحقيق إخراج آمن لهذه النطف ولإغلاق باب تخوّفات البعض وتحفظاتهم وصلت الحركة الأسيرة بتفكيرها الجمعيّ إلى شرعنة هذا الأمر وتحقيقه دون أي مخاطر لإدراكها بأن أيّ خطأ في الأمر سيفسد الأمر كلّه وهو ليس عملا ارتجاليّا يحتمل الصواب والخطأ لأنه أمر ذو علاقة بالعرض ومصداقية النّسب وهذه أمور مقدّسة في الحياة الفلسطينية والعربية بشكل عام، فكان اشتراط موافقة أهل المعتقل وأهل الزوجة وكانت دقة عملية التهريب بحيث تسلّم مباشرة يدا بيد ويستقبلها الأهل الى حيث المختبر ومركز التلقيح بطريقة آمنة لا تحتمل الخطأ، وفي هذا مسئوليات كبيرة لا تحتمل الخلل أبدا.
وقد حققت الحركة الأسيرة إنجازا كبيرا بهذا الفعل على صعيد الفعل النضالي العام المشتبك مع سلطات الاحتلال بأعلى درجات القمع والعدوان وصلف السجان، وحقّقت أملا لأسر كثيرة أضافت اليها حياة وحيوية وامتدادا للأسير في نسله خارج السجن وحقّقت روحا وحيوية جديدة لحياة أسرية واعدة لما بعد الافراج المأمول والذي لا يفتقد الأسير الشعور به أبدا.
وقد شهدت التجربة الأولى للأسير المحكوم مؤبدات كثيرة عمار الزبن حيث كان أوّل من قام بالتجربة، كان لديه بنتان قبل سجنه فأضاف لهما أخا ثالثا "مهنّد" فكانت إضافة نوعية لشخص لا يستطيع ممارسة حياته العاديّة أبدا ما دام في السجن، عمّار طرح الموضوع كثيرا على الاسرى ونجح في إقناع كثيرين ونجح في استصدار فتوى شرعية في البداية ثم حلّ عرى كلّ التحفظات من خلال ما اتخذ من إجراءات سليمة تتجاوز كلّ المخاوف.
قبل أن نأتي للفيلم لا بدّ من التذكير بأن سلطات الاحتلال القمعية غاظها هذا الأمر واتخذت إجراءات كثيرة تمنع وتصدّ محاولات التهريب، وعاقبت كلّ من اكتشفت أنه قام بالتهريب بالعزل فترات طويلة وعاقبت أهل المعتقل خاصة الزوجة من الزيارة وصلت لأكثر من سنة وسنتين، فالأمر يتناقض مع فلسفة السجان وأهدافه من منع أسيرنا من ممارسة أي شكل من أشكال الحياة.
هذا الفيلم تماهٍ مع سياسة السجّان وجاء لينقضّ على هذا الإنجاز وما شكّل من حالة انتصار عظيمة في تاريخ السجون الإسرائيلية سيئة الصيت والسّمعة، فبدل أن يعرّي سياسة السجان القمعية السادية اللعينة جاء ليضرب هذه الحالة المشرقة للمظلوم! بدل أن ينحاز إلى المسحوق والمسلوب من أبسط الحقوق الانسانية انحاز على الجلاد.
والأمر لا يحتمل الفانتازيا وخيال مخرج يتناقض مع مقدّسات إنسانية ذات شان عظيم عند أصحابها، فلو قال قائل هذا الفيلم يمثّل قصة من خيال كاتب فهذا غير صحيح لأنه هو نفسه ربط الأمر مع وضع واقعي محدّد الزمان والمكان، فالرواية التاريخية تلتزم بمصداقية ما حدث بالفعل وتقوم بالتحقّق من الأمر وقد تلعب في الهوامش التي يتطلبها النسيج الفنّي للفيلم دون أن يخلّ في جوهر الرواية التاريخية، أمّا أن تذهب إلى النقيض وتضرب أساسيات ما حدث بالفعل فهذا يتناقض حتى مع أصول العمل الفني.
فهل تذكرة الدخول إلى النادي الصهيوني والوكر الماسوني وماكينة الدعاية الإسرائيلية ومن لفّ لفيفهم يتطلّب هذا المسخ الفنّي الذي يخدم المجرمين والمتربصين بالقضية الفلسطينية، وذلك بضرب كل ظاهرة ننجح في تصديرها للعالم بأبهى وأجمل الصور الإنسانيّة، أمام هذا الفعل العظيم كان من المفروض أن يأتي الفيلم ليظهر تجليّات هذه الروح الإنسانية العظيمة التي حقّها الفلسطيني على جلّاده المقيت، كان من المفروض أن يجيد الفيلم رسم شخصية الإنسان الفلسطيني الذي حمل على عاتقه مقاومة هذا الاحتلال الكولنيالي الإحلالي العنصري الذي احتلّ أرضا ليست له وأقام دولة بكل أشكال الظلم والطغيان، الأسير هو رمز التحرّر من هذا الاحتلال والذي تلفظه كلّ الثقافات البشرية المعاصرة وعلى مرّ التاريخ.
لو أن كاتب نص ومخرج الفيلم ذهب بهذا الاتجاه وهو إظهار هذا الانتصار العظيم على حقيقته لربح كلّ أحرار العالم وكلّ الرافضين لكلّ أشكال الاستعمار والهيمنة الباغية وقد يخسر في هذه الحالة تمويل الظالمين الذين ما زالوا محافظين على تماهيهم مع الروح العنصرية الغازية للحركة الصهيونية، هو في هذه الحالة التي مثّلها نجح أن يكون بيدقا من بيادقهم وجزمة تلبسها أقدامهم وإذا كان ثمّة ما يقال أن الثقافة مقاومة فإن من الثقافة والأدب والإنتاج الفني ما يكون عمالة رخيصة مبتذلة ساقطة.