قائمة الموقع

​محمد.. آخر العنقود وشهيد البحر الراحل

2017-06-24T09:50:16+03:00
جانب من تشييع الشهيد بكر (تصوير ياسر فتحي)

خرج محمد ماجد بكر (25 عامًا) في فجر يوم الإثنين الموافق للخامس عشر من مايو/حزيران من العام الحالي، خرج لا يلوي على شيء سوى أن يحضر قوت طفلتيه، وهي عادته مذ كان طفلًا يرافق والده، ليمخرا عباب البحر معًا كل يوم ويعودا بما يفيض به الرحمن عليهما من رزق بحري.

هذه المرة خرج محمد على قدميه، لكنه لم يعد إلا محمولًا على الأكتاف شهيدًا في اليوم التالي، فالخامس عشر من مايو هو اليوم الموافق للذكرى التاسعة والستين لنكبة الشعب الفلسطيني في عام 1948م من تهجير وتشريد وقتل وتشتيت، وفي هذا العام حملت الذكرى نكبة خاصة لعائلة الصياد محمد، إذ تعرض لإطلاق نار من زوارق قوات الاحتلال ليصعد إلى بارئه يخبره ماذا فعلوا فيه في عرض البحر.

"فلسطين" في زاوية "نشتاقهم" لهذا اليوم حملت أوجاع عائلة الشهيد محمد ماجد بكر (25 عامًا)، وحادثت والديه، فها هو رمضان الأول يأتي دونه ولم يكمل رحيله عنهم الشهر الأول، أي أن الجرح لا يزال نازفًا بكل غزارته وقوته ووجعه، والتفاصيل في التقرير التالي..

عاد شهيدًا!

والده الصياد ماجد بكر (67 عامًا) استجمع قواه، وحاول أن يبدأ الحديث معنا بصوته المتحشرج بالذكريات، يقول: "ابني محمد آخر العنقود، كنت أرسله في كل شيء أحتاج إليه، كان دائم التذمر لماذا يكون كل العبء عليه، فأخبره أن أكبر وأصغر أفراد العائلة من يأكل العبء".

وينوه إلى أنه عند ذهابه إلى السوق كان يصطحب معه محمد –رغم تذمره الدائم فهو سنده وذراعه اليمنى التي لا يمكنه الاستغناء عنها مهما حدث– ويجهزان معًا احتياجات العائلة كلها، لأن الأب عوّد أولاده في عائلتهم أن يفطر كل أفراد العائلة معًا؛ الأب والأم والأولاد وزوجاتهم والأحفاد، مشيرًا إلى أن نفس محمد كانت طيبة يحب كل أنواع الأكل ولكنه يختار معه شراء الأجبان والحلاوة.

وبسؤاله عن رمضان والبحر ومحمد، يجيب: "في كل رمضان نتناول طعام السحور، ونصلي صلاة الفجر، ونغادر إلى عمق البحر، ننتظر ما يمنّ الله به علينا من رزق، ثم نعود أدراجنا في وقت مبكر عن طيلة أيام العام الأخرى".

وينوه إلى أنهم لا يحتملون مع الصيام درجات الحرارة المرتفعة والشمس فيغادرون البحر قرابة التاسعة والنصف صباحًا عوضًا عن العاشرة والنصف والحادية عشرة أو منتصف النهار في أوقات أخرى من العام، ويكونون دومًا قانعين بما أفاضه البحر عليهم من خيراته.

وفي البحر "يتشاكل" دومًا محمد مع ابن عمه المسمى بذات الاسم، فالمحمدان يقضيان وقتهما بـ"ملاكشة" بعضهما بعضًا، وهما في وسط البحر، كلاهما يوصم الآخر بأنه محكوم لزوجته، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجدهما متفقين ولو لحظة، هكذا يروي الأب ماجد ما كان يحدث بين ابنه وابن أخيه.

ويستدرك بقوله: "ذهبت لقراءة سورة الفاتحة على روح ابني الشهيد، فوجدت ابن أخي محمد يقف هناك ويبكي ويقرأ الفاتحة على روحه، وهو يقول: "ماذا سأفعل الآن دونه؟""، عزيزي القارئ.. يشار إلى أن قوات الاحتلال أطلقت النار على مركب الصيد الذي كان فيه المحمدان، فحمل الصحيح منهما المصاب ووضعه في مركب الاحتلال لعلهم يسعفونه بعد تدميرهم لمركبهم، لكنه عاد في اليوم التالي شهيدًا.

تفقده أمه!

وفي تفاصيل اليوم الرمضاني لمحمد، يتابع الأب: "بعد عودتنا من البحر، يزور أرحامه، وقبيل وقت الإفطار يجمع كل أحفاد المنزل ويخرجهم أمام باب البيت، ليفسح المجال أمام والدته وكنائنها للتجهيز لمائدة الإفطار دون أي إزعاج من الأطفال".

صمت قليلًا، ثم عاد يقول: "منذ استشهاده وحتى الآن لم أصل البحر، هناك ما يمنعني، لا أدري ما هو، ولا أدري متى سأعود للبحر، أتعرفين حتى تسوقي لرمضان هذا العام لم يحدث، الزمن كله توقف مع استشهاده".

استأذنته للحديث مع والدة الشهيد، فوافق لكنه رجا منّي ألا أبكيها، المعقد في الأمر أنها بمجرد بدأ الحديث أخذت تبكي، إذ كيف بأم لم يمضِ على فراق ابنها -أثناء إجراء اللقاء- سوى خمسة عشر يومًا فقط أن تتمالك أعصابها؟

شرد فكرها قليلًا، وهي تخبرني عن محمدها آخر العنقود ومدللها كيف كان معها في المنزل، كيف كان يتذمر منها هي أيضًا وهي تطلب منه أن يعينها ويساعدها، ومع تذمره المحبب لقلبها كان يلبي لها كل شيء.

وواصلت حديثها بصوت متقطع يغلب عليه البكاء، محمد نفسه طيبة كان يحب كل ما أصنع من الأكل، مشيرة إلى أنها تفتقده كثيرًا على سفرة الإفطار التي اعتادت أن تحتضن كل أولادها مع زوجاتهم وأطفالهم، فيكون نصيبها صدر المائدة ومحمد يقابلها.. الآن لا أحد يقابلها فالمكان فارغ برحيل محمد شهيدًا.. وإلى هنا ما عاد بإمكانها الحديث أكثر، فغادرناها.

اخبار ذات صلة